قوله تعالى : { كتب عليكم القتال } . أي فرض عليكم الجهاد ، واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال عطاء : الجهاد تطوع ، والمراد من الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهم ، وإليه ذهب الثوري ، واحتج من ذهب إلى هذا بقوله تعالى : ( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى ) ولو كان القاعد تاركاً فرضاً لم يكن بعده الحسنى ، وجرى بعضهم على ظاهر الآية ، وقال : الجهاد فرض على كافة المسلمين إلى قيام الساعة .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي الخوارزمي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي القرائي ، أخبرنا أبو الهيثم بن كليب أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة ، أخبرنا سعيد بن عثمان العبدي عن عمر بن محمد بن المنكدر عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بالغزو ، مات على شعبة من النفاق " .
وقال قوم ، وعليه الجمهور : إن الجهاد فرض على الكفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، مثل صلاة الجنازة ، ورد السلام ، قال الزهري والأوزاعي : كتب الله الجهاد على الناس غزوا ، أو قعدوا ، فمن غزا فيها ونعمت ، ومن قعد فهو عدة ، إن استعين به أعان ، وإن استنفر نفر ، وإن استغني عنه قعد .
قوله تعالى : { وهو كره لكم } . أي شاق عليكم قال بعض أهل المعاني : هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما فيه ، من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح ، لا أنهم كرهوا أمر الله تعالى ، وقال عكرمة : نسخها قوله تعالى : ( سمعنا وأطعنا ) يعني أنهم كرهوه ثم لبوه فقالوا ( سمعنا وأطعنا ) .
قوله تعالى : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } . لأن في الغزو إحدى الحسنيين : إما الظفر والغنيمة ، وإما الشهادة والجنة
قوله تعالى : { وعسى أن تحبوا شيئاً } . يعني القعود عن الغزو .
قوله تعالى : { وهو شر لكم } . لما فيه من فوات الغنيمة والأجر .
وقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } حض لهم على بذل النفس في سبيل إعلاء كلمة الله ، بعد أن حضهم في الآية السابقة على بذل المال .
والكُره - بضم الكاف - بمعنى الكراهية بدليل قوله - تعالى - : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً . . . } أي أن القتال لشدة ويلاته ، وما فيه من إزهاق الأرواح كأنه الكراهة نفسها فهو من وضع المصدر موضع اسم المفعول مبالغة ، وقرئ وهو كره لكم - بفتح الكاف - فيكون فيه معنى الإِكراه ، لأن الكره بالفتح ما أكرهت عليه . وقيل هما لغتان بمعنى واحد وهو الكراهية .
ويرى كثير من المفسرين أن القتال إنما كان مكروها للنفوس لما فيه من التعرض للجراح وقطع الأطراف ، وإزهاق الأرواح والإِنسان ميال بطبعه إلى الحياة ، وأيضاً لما فيه من إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل ، والحيلولة بين المقاتل وبين طمأنينته ونومه وطعامه ، فهو مهما يكن أمره فيه ويلات وشدائد ، ومشتقات تتلوها مشقات ، ولكن كون القتال مكروها للنفوس لا ينافي الإِيمان ولا يعني أن المسلمين كرهوا فرضيته ، لأن امتثال الأمر قد يتضمن مشقة ، ولكن إذا عرف الثواب في جنبه اقتحام المشقات . ولا شك أن القتال في سبيل الله - مع ما فيه من صعاب وشدائد - ستكون عاقبته العزة في الدنيا ، والسعادة في الأخرى .
ويرى بعضهم أن كره المسلمين للقتال ليس سببه ما فيه من شدائد ومخاطر وتضحيات بدليل أنهم كانوا يتنافسون خوض غمراته ، وإنما السبب في كراهيتهم له هو أن الإِسلام قد غرس في نفوسهم رقة ورحمة وسلاما وحبا ، وهذه المعاني جعلتهم يحبون مصابرة المشركين ويكرهون قتالهم أملا في هدايتهم ، ورجاء في إيمانهم ، ولكن الله - تعالى - كتب على المسلمين قتال أعدائهم لأنه يعلم أن المصلحة في ذلك ، فاستجاب المؤمنون بصدق وإخلاص لما فرضه عليهم ربهم .
ويبدو لنا أن الرأي الأول أقرب إلى ظاهر الآية ، لأن القتال فريضة شاقة على النفس البشرية ، بحسب الطبع والقرآن لا يريد أن ينكر مشقتها ، ولا أن يهون من أمرها ، ولا أن ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها ، ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ، بأن يقرر أن من الفرائض ما هو شاق ولكن وراءه حكمة تهون مشقته ، وتسهل صعوبته ، وتحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإِنساني القصير . وقد بين القرآن هذه الحكمة في قوله { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } .
أي : وعسى أن تكرهوا شيئاً كالقتال في سبيل الله - تعالى - وهو خير لكم إذ فيه إحدى الحسنيين : إما الظفر والغنيمة - في الدنيا مع ادخار الجزاء الأخروى وإما الشهادة والجنة ، وعسى أن تحبوا شيئاً كالقعود عن الجهاد وهو شر لكم في الواقع لما فيه من الذل ووقوعكم تحت طائلة الأعداء .
قال الفخر الرازي : معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقا عليكم في الحال ، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل ، ولأجله حسن شرب الدواء في المر في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل ، وترك الجهاد ، وإن كان يفيد - أي بحسب ظنكم - في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإِنفاق ولكن فيه أنوع من المضار منها : أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصد بلادكم وحاول قتلكم . . . والحاصل أن القتال في سبيل الله سبب لحصول الأمن من الأعداء في الدنيا وسبب لحصول الثواب العظيم للمجاهد في الآخرة . . "
وقال القرطبي : والمعنى : عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون ومن مات منكم مات شهيدا ، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون ويذهب أمركم .
وهذا صحيح لا غبار عليه ، كما اتفق في بلاد الأندلس ، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار ، فاستولى العدو على البلاد ، وأي بلاد ؟ ! ! وأسر وقتل وسبى واسترق ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ! ! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته ! ! وقال الحسن في معنى الآية : لا تكرهوا الملمات الواقعة ؛ فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك ، ولرب أمر تحبه فيه عطبك ، وأنشد أبو سعيد الضرير :
رب أمر تتقيه . . . جر أمراً ترتضيه
خفى المحبوب منه . . . وبدا المكروه فيه
وهذا الكلام الذي كتبه الإِمام القرطبي من مئات السنين يثير في النفس شجوناً وآلاماً ، فإن المسلمين ما هانوا وضعفوا إلا عند ما تركوا الجهاد في سبيل الله ، وتثافلوا إلى الأرض ، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، وآثروا متع الدنيا وشهواتها على الحياة العزيزة الكريمة .
وقال الإِمام ابن كثير عند تفسيره للآية : هذا إيجاب من الله - تعالى - للجهاد على المسلمين وأن يكفوا شر الأعداء من حوزة الإِسلام . قال الزهري : الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد . فالقاعد عليه إذا استعين به أن يعين ، وإذا استغيث به أن يغيث ، وإذا استنقرأن ينفر ، ولهذا ثبت في الصحيح " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية " ، وقال : صلى الله عليه وسلم يوم الفتح : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونبة وإذا استنفرتم فانفروا " .
وقد أجمع العلماء على أنه إذا نزل العدو بساحة البلاد وجب القتال على كل المسملين ، كل على حسب قدرته .
وقد ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة بقوله : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي : والله يعلم ما هو خير لكم وما هو شر لكم في الواقع وأنتم لا تعلمون ذلك ، فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيراً لكم ، وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم ، ومفعولا يعلم وتعلمون محذوفان دل عليهما ما قبلهما . أي : يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونها . والمقصود من هذه الجملة الكريمة الترغيب في الجهاد ، والامتثال لما شرعه الله - تعالى - سواء أعرفت حكمته أم لم تعرف ، لأن العليم بالحكم والمصالح هو الله رب العالمين .
وبذل كنرى أن القرآن الكريم لا ينكر على الناس مشاعرهم الطبيعية ، وأحاسيسهم الفطرية من كراهية للقتال ، ولكنه يرى نفوسهم على الاستجابة لأوامر الله العليم بالغايات المطلع على العواقب ، الخبير بما فيه خيرهم ومصلحتهم ، وبهذه التربية الحكيمة بذل المؤمنون نفوسهم وأموالهم في سبيل رضا خالقهم عن طواعية واختيار ، لا عن قسر وإجبار .
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين : أن يكُفُّوا شرّ الأعداء عن حَوْزة الإسلام .
وقال الزهري : الجهادُ واجب على كلّ أحد ، غزا أو قعد ؛ فالقاعد عليه إذَا استعين أن يَعينَ ، وإذا استُغيثَ أن يُغيثَ ، وإذا استُنْفرَ أن ينفر ، وإن لم يُحتَجْ إليه قعد .
قلت : ولهذا ثَبَت في الصحيح{[3759]} " من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية " {[3760]} . وقال عليه السلام يوم الفتح : " لا هجرة ، ولكن جهاد ونيَّة ، إذا استنفرتم فانفروا " {[3761]} .
وقوله : { وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } أي : شديد عليكم ومشقة . وهو كذلك ، فإنه إما أن يُقْتَلَ أو يجرحَ مع{[3762]} مشقة السفر ومجالدَة الأعداء .
ثم قال تعالى : { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : لأنّ القتالَ يعقبه النصر والظفر على الأعداء ، والاستيلاء على بلادهم ، وأموالهم ، وذرَاريهم ، وأولادهم .
{ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وهذا عام في الأمور كلّها ، قد يُحِبّ المرءُ شيئًا ، وليس له فيه خيرة ولا مصلحة . ومن ذلك القُعُود عن القتال ، قد يَعْقُبُه استيلاء العدو على البلاد والحكم .
ثم قال تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : هو أعلم بعواقب الأمور منكم ، وأخبَرُ بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم ؛ فاستجيبوا له ، وانقادوا لأمره ، لعلكم ترشدون .
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
يعني بذلك جل ثناؤه : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ فرض عليكم القتال ، يعني قتال المشركين ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ .
واختلف أهل العلم في الذين عنوا بفرض القتال ، فقال بعضهم : عنى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء قلت له : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أواجب الغزو على الناس من أجلها ؟ قال : لا ، كتب على أولئك حينئذٍ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا خالد ، عن حسين بن قيس ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : كُتِبَ عَلَيْكُمْ الِقتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ قال : نسختها قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا .
وهذا قول لا معنى له ، لأن نسخ الأحكام من قبل الله جل وعز لا من قبل العباد ، وقوله : قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخ منه .
حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا معاوية بن عمرو ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، قال : سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل : كُتِبَ عَلَيْكُمْ القِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أواجب الغزو على الناس كلهم ؟ قال : لا أعلمه ، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه ، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا .
وقال آخرون : هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية ، فيسقط فرض ذلك حينئذٍ عن باقي المسلمين كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم ، وعلى هذا عامة علماء المسلمين . وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك ، ولقول الله عز وجل : فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدينَ بأمْوَالِهم وأنْفُسِهِمْ على القَاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى فأخبر جل ثناؤه أن الفضل للمجاهدين ، وأن لهم وللقاعدين الحسنى ، ولو كان القاعدون مضيعين فرضا لكان لهمّ السوأى لا الحسنى .
وقال آخرون : هو فرض واجب على المسلمين إلى قيام الساعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حسين بن ميسر ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، عن ابن جريج ، عن داود بن أبي عاصم ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : قد أعلم أن الغزو واجب على الناس فسكت . وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت لبين لي .
وقد بينا فيما مضى معنى قوله «كتب » بما فيه الكفاية .
القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ .
يعني بذلك جل ثناؤه : وهو ذو كره لكم ، فترك ذكر «ذو » اكتفاء بدلالة قوله : «كره لكم » عليه ، كما قال : وَاسْألِ القَرْيَةَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن عطاء في تأويله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ قال : كره إليكم حينئذ .
والكره بالضم : هو ما حمل الرجل نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه ، والكره بفتح الكاف : هو ما حمله غيره ، فأدخله عليه كرها وممن حُكي عنه هذا القول معاذ بن مسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن معاذ بن مسلم ، قال : الكُرْه : المشقة ، والكَرْه : الإجبار .
وقد كان بعض أهل العربية يقول الكرَه والكُرْه لغتان بمعنى واحد ، مثل الغَسل والغُسل ، والضَعف والضُعف ، والرّهب والرّهب . وقال بعضهم : الكُره بضم الكاف اسم ، والكَره بفتحها مصدر .
القول في تأويل قوله تعالى : وَعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أنْ تُحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ .
يعني بذلك جل ثناؤه : ولا تكرهوا القتال ، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خير لكم ، ولا تحبوا ترك الجهاد ، فلعلكم أن تحبوه وهو شّر لكم . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تَكُرَهُوا شَيْئا وَهُو خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تُحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ وذلك لأن المسلمين كانوا يكرهون القتال ، فقال : عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم . يقول : إن لكم في القتال الغنيمة والظهور والشهادة ، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين ، ولا تستشهدوا ، ولا تصيبوا شيئا .
حدثني محمد بن إبراهيم السلمي ، قال : ثني يحيى بن محمد بن مجاهد ، قال : أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي ، قال : أخبرني عامر بن واثلة قال : قال ابن عباس : كنت رِدْف النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «يا ابنَ عبّاسٍ ارْضَ عنِ اللّهِ بمَا قَدّرَ وَإنْ كانَ خِلافَ هواكَ ، فإنّه مُثْبَتٌ في كتابِ اللّهِ » قلت : يا رسول الله فأين وقد قرأتُ القرآن ؟ قال : «في قوله : وَعَسَىَ أنْ تَكْرَهُوا شيْئا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تُحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .
يعني بذلك جل ثناؤه : والله يعلم ما هو خير لكم مما هو شر لكم ، فلا تكرهوا ما كتبت عليكم من جهاد عدوّكم ، وقتال من أمرتكم بقتاله ، فإني أعلم أن قتالكم إياهم ، هو خير لكم في عاجلكم ومعادكم وترككم قتالهم شر لكم ، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما أعلم ، يحضهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه ، ويرغبهم في قتال من كفر به .
{ كتب عليكم القتال وهو كره لكم } شاق عليكم مكروه طبعا ، وهو مصدر نعت به للمبالغة ، أو فعل بمعنى مفعول كالخبز . وقرئ بالفتح على أنه لغة فيه كالضعف والضعف ، أو بمعنى الإكراه على المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته كقوله تعالى { حملته أمه كرها ووضعته كرها } { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } وهو جميع ما كلفوا به ، فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم وسبب فلاحهم . { وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم } وهو جميع ما نهوا عنه ، فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى ، وإنما ذكر { عسى } لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها . { والله يعلم } ما هو خير لكم . { وأنتم لا تعلمون } ذلك ، وفيه دليل على أن الأحكام تتبع المصالح الراجحة وإن لم يعرف عينها .
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( 216 )
و { كتب } معناه فرض ، وقد تقدم مثله ، وهذا هو فرض الجهاد ، وقرأ قوم «كتب عليكم القتل »( {[2007]} ) .
وقال عطاء بن أبي رباح : «فرض القتال على أعيان أصحاب محمد ، فلما استقر الشرع وقيم به صار على الكفاية » ، وقال جمهور الأمة : أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد فرض كفاية ، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين ، إلا أن ينزل العدو بساحة للإسلام ، فهو حينئذ فرض عين( {[2008]} ) ، وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال : الجهاد تطوع . وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد . فقيل له : ذلك تطوع( {[2009]} ) وال { كُره } بضم الكاف الاسم ، وفتحها المصدر .
وقال قوم «الكَره » بفتح الكاف ما أُكره المرء عليه ، و «الكُره » ما كرهه هو( {[2010]} ) .
وقوله تعالى { وعسى أن تكرهوا شيئاً } الآية( {[2011]} ) ، قال قوم { عسى } من الله واجبة( {[2012]} ) ، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة { وهو خير لكم } في أنكم تغلبون وتظهرون وتغنمون وتؤجرون ، ومن مات مات شهيداً ، { وعسى أن تحبوا } الدعة وترك القتال { وهو شر لكم } في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم ، وفي قوله تعالى { والله يعلم } الآية قوة أمر( {[2013]} ) .
المناسبة أن القتال من البأساء التي في قوله : { ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء } [ البقرة : 214 ] فقد كلفت به الأمم قبلنا ، فقد كلفت بنو إسرائيل بقتال الكنعانيين مع موسى عليه السلام ، وكلفوا بالقتال مع طالوت وهو شاول مع داود ، وكلف ذو القرنين بتعذيب الظالمين من القوم الذين كانوا في جهة المغرب من الأرض .
ولفظ { كتب عليكم } من صيغ الوجوب وقد تقدم في آية الوصية . وآل في ( القتال ) للجنس ، ولا يكون القتال إلا للأعداء فهو عام عموماً عرفياً أي كتب عليكم قتال عدو الدين .
والخطاب للمسلمين ، وأعداؤهم يومئذ المشركون ، لأنهم خالفوهم في الدين وآذوا الرسول والمؤمنين ، فالقتال المأمور به هو الجهاد لإعلاء كلمة الله ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأذون في القتال في أول ظهور الإسلام ، ثم أذن له في ذلك بقوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } [ الحج : 39 ] ، ثم نزلت آية قتال المبادئين بقتال المسلمين في قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } [ البقرة : 190 ] كما تقدم آنفاً .
هذه الآية نزلت في واقعة سرية عبد الله بن جَحش كما يأتي ، وذلك في الشهر السابع عشر من الهجرة ، فالآية وردت في هذه السورة مع جملة التشريعات والنظم التي حوتها كقوله : { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] ، { كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] ، { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } [ البقرة : 180 ] . فعلى المختار يكونُ قوله : { كتب عليكم القتال } خبراً عن حكم سبق لزيادة تقريره ولينتقل منه إلى قوله { وهو كره لكم } الآية ، أو إعادة لإنشاء وجوب القتال زيادة في تأكيده ، أو إنشاءً أُنُفاً لوجوب القتال إن كانت هذه أول آية نزلت في هذا المعنى بناء على أن قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } إذْن في القتال وإعداد له وليست بموجبة له .
وقوله : { وهو كره لكم } ، حال لازمة وهي يجوز اقترانها بالواو ، ولك أن تجعلها جملة ثانية معطوفة على جملة : { كُتب عليكم القتال } ، إلا أن الخبر بهذا لما كان معلوماً للمخاطبين تعين أن يكون المراد من الإخبار لازم الفائدة ، أعني كتبناه عليكم ونحن عالمون أنه شاق عليكم ، وربما رجح هذا الوجه بقوله تعالى بعد هذا : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .
والكره بضم الكاف : الكراهية ونفرة الطبع من الشيء ومثله الكَره بالفتح على الأصح ، وقيل : الكُره بالضم المشقة ونفرة الطبع ، وبالفتح هو الإكراه وما يأتي على الإنسان من جهة غيره من الجبر على فعل مَّا بأذى أو مشقة ، وحيث قُرىء بالوجهين هنا وفي قوله تعالى : { حملته أمه كرها ووضعته كرها } [ الأحقاف : 15 ] ولم يكن هنا ولا هنا لك معنى للإكراه تعين أن يكون بمعنى الكراهية وإباية الطبع كما قال الحماسي العُقَيلي :
بكُره سراتنا يا آل عمرو *** نُغاديكم بمُرْهَفَة النِّصَال
على أن قوله تعالى بعد ذلك { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } الوارد مورد التذييل : دليل على أن ما قبله مصدر بمعنى الكراهية ليكون جزئياً من جزئيات أن تكرهوا شيئاً .
وقد تحمل صاحب « الكشاف » لحمل المفتوح في هذه الآية والآية الأخرى على المجاز ، وقرره الطيبي والتفتازاني بما فيه تكلف ، وإذ هو مصدر فالإخبار به مبالغة في تمكن الوصف من المخبر عنه كقول الخنساء :
* فإنما هي إقْبَالٌ وإدْبَار *
وقيل : الكُره اسم للشيء المكروه كالخبز . فالقتال كريه للنفوس ، لأنه يحول بين المقاتل وبين طمأنينته ولذَّاته ونومه وطعامه وأهله وبيته ، ويلجىءُ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه ويعرضه لخطر الهلاك أو ألم الجراح ، ولكن فيه دفع المذلَّة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم ، وفي الحديث " لا تَمَنَّوْا لِقَاء العدوّ فإذا لقيتم فاصبروا " وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان تركها يفضي إلى ضر عظيم قال العُقَيلي :
ونَبِكي حينَ نَقتُلكم عليكم *** ونَقتلكم كأنَّا لا نُبالي
ومعلوم أن كراهية الطبع الفعلَ لا تنافي تلقي التكليف به برضا لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة .
ثم إن كانت الآية خبراً عن تشريع مضى ، يحتمل أن تكون جملة { وهو كره } حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين فكان إيجاب القتال ثقيلاً عليهم ، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم ، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال ، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية ، فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كَرِهوا الصلح واستحبوا القتال ، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيراً لهم بأن الله أعلم بمصالحهم ، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح في وقت أحبوا فيه القتال ، فحذف ذلك لقرينة المقام ، والمقصود الإفضاء إلى قوله : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم ، كما تقدم في حوار عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ، ويكون في الآية احتباك ، إذ الكلام على القتال ، فتقدير السياق كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حِبٌّ لكم ، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم ، وإن كانت الآية إنشاء تشريع فالكراهية موجودة حين نزول الآية فلا تكون واردة في شأن صلح الحديبية ، وأول الوجهين أظهرهما عندي ليناسب قوله عقبه : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } [ البقرة : 217 ] .
وقوله : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشيء عن قوله : { كتب عليكم القتال وهو كُره لكم } ، لأنه إذا كان مكروهاً فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك .
وجملة { وعسى } معطوفة على جملة { كتب عليكم القتال } ، وجملة { وهو خير لكم } : حالية من { شيئاً } على الصحيح من مجيء الحال من النكرة ، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين ، وإن كان سبحانه غنياً عن البيان والتعليل ، لأنه يأمر فيُطاع ، ولكن في بيان الحكمة تخفيفاً من مشقة التكليف ، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد ، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته ، إذ يكره الطبع شيئاً وفيه نفعه وقد يحب شيئاً وفيه هلاكه ، وذلك باعتبار العواقب والغايات ، فإن الشيء قد يكون لذيذاً ملائماً ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك ، وقد يكون كريهاً منافراً وفي ارتكابه صلاح . وشأن جمهور الناس الغفلة عن العاقبة والغاية أو جهلهما ، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب .
فإن قلت : ما الحكمة في جعل أشياء كثيرةٍ نافعةٍ مكروهةً ، وأشياء كثيرةٍ ضارةٍ محبوبةً ، وهلا جعل الله تعالى النَّافعَ كلَّه محبوباً والضار كلَّه مكروهاً فتنساقَ النفوسُ للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنُكفى كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها الأشعري مع شيخه الجبائي وفارق الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال ؟ .
قلت : إن حكمة الله تعالى بنت نظام العالم على وجود النافع والضار والطيب والخبيث من الذوات والصفات والأحداث ، وأوكل للإنسان سلطة هذا العالم بحكم خَلْقِه الإنسانَ صالحاً للأمرين وأَراه طريقي الخير والشر كما قدمناه عند قوله تعالى : { كان الناس أمة واحدة } [ البقرة : 213 ] ، وقد اقتضت الحكمة أن يكون النافع أكثر من الضار ولعل وجود الأشياء الضارة كَوَّنه الله لتكون آلة لحمل ناس على اتباع النافع كما قال تعالى : { فيه بأس شديد ومنافع للناس } [ الحديد : 25 ] ، وقد أقام نظام هذا العالم على وجود المتضادات ، وجعل الكمال الإنساني حاصلاً عند حصول جميع الصفات النافعة فيه ، بحيث إذا اختلت بعض الصفات النافعة منه انتقصت بقيةُ الصفات النافعة منه أو اضمحلت ، وجعل الله الكمال أقل من النقص لتظهر مراتِبُ النفوس في هذا العالم ومبالغ العقول البشرية فيه ، فاكتسب الناس وضيعوا وضروا ونفعوا فكثر الضار وقل النافع بما كسَب الناسُ وفعلوا قال تعالى : { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث } ( 100 ) .
وكما صارت الذوات الكاملة الفاضلة أقل من ضدها صارت صفات الكمال عزيزة المنال ، وأُحيطت عزتها ونفاستها بصعوبة منالها على البشر وبما يحف بها من الخطر والمتاعب ، لأنها لو كانت مما تنساق لها النفوس بسهولة لاستوى فيها الناس فلم تظهر مراتِبُ الكمال ولم يقع التنافس بين الناس في تحصيل الفضائل واقتحام المصاعب لتحصيلها قال أبو الطيب :
ولا فضل فيها للشجاعة والندى *** وصبرِ الفتى لولا لقاء شَعُوب
فهذا سبب صعوبة الكمالات على النفوس .
ثم إن الله تعالى جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو المعبر عنه بالازدواج ، غير أن هذا التولد يحصل في الذوات بطريقة التولد المعروفة قال تعالى : { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } [ الرعد : 3 ] وأما حصوله في المعاني ، فإنما يكون بحصول الصفة من بين معنيي صفتين أخريين متضادتين تتعادلان في نفس فينشأ عن تعادلهما صفة ثالثة .
والفضائل جعلت متولدة من النقائص ؛ فالشجاعةُ من التهور والجبنِ ، والكرمُ من السرف والشح ، ولا شك أن الشيء المتولد من شيئين يكون أقل مما تولد منه ، لأنه يكون أقل من الثلث ، إذ ليس كلَّما وجد الصفتان حصل منهما تولد صفة ثالثة ، بل حتى يحصل التعادل والتكافؤ بين تينك الصفتين المتضادتين وذلك عزيز الحصول ولا شك أن هاته الندرة قضت بقلة اعتياد النفوس هاته الصفات ، فكانت صعبة عليها لقلة اعتيادها إياها .
ووراء ذلك فالله حدد للناس نظاماً لاستعمال الأشياء النافعة والضارة فيما خلقت لأجله ، فالتبعة في صورة استعمالها على الإنسان وهذا النظام كله تهيئة لمراتب المخلوقات في العالم الأبدي عالم الخلود وهو الدار الآخرة كما يقال : « الدنيا مزرعة الآخرة » وبهذا تكمل نظرية النقض الذي نقض به الشيخ الأشعري على شيخه الجبائي أصلهم في وجوب الصلاح والأصلح فيكون بحث الأشعري نقضاً وكلامنا هذا سَنَداً وانقلاباً إلى استدلال .
وجملة { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } تذييل للجميع ، ومفعولا { يعلم } و { تعلمون } محذوفان دل عليهما ما قبله أي والله يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما ، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعاً والمنافر ضاراً .
والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير ، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه فتطلبها بقدر الإمكان عسى أن ندركها ، لنفرع عليها ونقيس ويدخل تحت هذا مسائل مسالك العلة ، لأن الله تعالى لا يجري أمره ونهيه إلا على وفق علمه .