غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (216)

215

قوله تعالى : { كتب عليكم القتال } كان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأذون له في القتال مدة إقامته بمكة ، فلما هاجر أذن في قتال من يقاتله من المشركين ، ثم أذن في قتال المشركين عامة ، ثم فرض الله تعالى الجهاد . قال بعض العلماء : إن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على الكل فرض عين لا كفاية . أما الوجوب فمستفاد من لفظ الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة ، وقوله { كتب } وأما العموم فلأن قوله { عليكم } لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد كما في قوله { كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] و{ كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب . وعن ابن عمر وعطاء أن قوله { كتب } يقتضي الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة ، وقوله { عليكم } يقتضي تخصيص هذا الكتاب بالموجودين في ذلك الوقت . والعموم في { عليكم الصيام } مستفاد من دليل منفصل هو الإجماع . وذلك الدليل معقود ههنا بل الإجماع منعقد على أنه من فروض الكفاية إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل . { وهو كره لكم } ليس المراد أن المؤمنين ساخطون لأوامر الله تعالى فإن ذلك ينافي الإسلام ، وإنما المراد كون القتال شاقاً على النفس وهكذا شأن سائر التكاليف ، وكيف لا والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة وأنها في القتال أكثر لأن الحياة أعظم ما يميل إليه الطباع فبذلها ليس بهين ؟

والجود بالنفس أقصى غاية الجود *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأيضاً كراهتهم للقتال قبل أن فرض لما فيه من الخوف من كثرة الأعداء وإنارة نوائر الفتن ، فبيّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه للمصالح التي نذكرها . والكره الكراهة وضع المصدر موضع الوصف مبالغة ، ويجوز أن يكون بمعنى " مفعول " كالخبز بمعنى المخبوز أي هو مكروه لكم . وقرئ بالفتح بمعنى المضموم كالضعف والضعف ، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له أو مشقته عليهم كقوله تعالى { حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً } وقال بعضهم : الكره بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه ، وإذا كان بالإكراه فبالفتح . { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } فربما كان الشيء شاقاً عليكم في الحال وهو سبب للمنافع الجليلة في الاستقبال وبالضد ، ولهذا حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في الاستقبال ، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتحصيل الربح في المال ، وكذا تحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة العظمى في الدنيا والعقبى .

العلم أوله مر مذاقته *** لكنّ آخره أحلى من العسل

وههنا كذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإنفاق ، ولكن فيه أنواع من المفاسد والمضار أدناها تسلط الكفار واستيلاؤهم على ديار المسلمين ، وربما يؤدي إلى أن استباحوا بيضة الإسلام واستناخوا بحريمهم واستأصلوهم عن آخرهم . وأما منافع الجهاد فمنها الظفر بالغنائم ، ومنها الفرح العظيم بالاستيلاء على العدو . وأما ما يتعلق بالدين فالثبات عليه والثواب في الآخرة . وترغيب الناس في الإسلام وإعلاء كلمة الله ، وتوطين النفس للفراق عن دار البلاء والانقطاع عن عالم الحس قال الخليل : " عسى " من الله واجب في القرآن . قال : { فعسى الله أن يأتي بالفتح } [ المائدة : 52 ] وقد وجد { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً } [ يوسف : 83 ] وقد حصل . والتحقيق أن معنى الرجاء فيه يعود إلى المكلف وإن كان المرجو حاله معلوماً لله تعالى كما بينا في " لعل " { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } وذلك أن علمه تعالى فعلي يعلم الأسباب وما يترتب عليها ، والحوادث وما نشأت هي منها ، يحيط علمه بالمبادئ والغايات { لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات } [ سبأ : 3 ] وعلمكم انفعالي فلعلكم تعكسون التصورات فتظنون المبادئ غايات وبالعكس ، والمصالح مفاسد وبالضد . وفيه ترغيب عظيم في أداء وظائف التكاليف . وتخويف شديد عن تبعة العصيان والمرود ، فإن الإنسان إذا تصور قصور نفسه وكمال علم الله تعالى علم أنه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيره وصلاحه ، فيلزم نفسه امتثاله وإن كرهه طبعه فكأنه تعالى يقول : يا أيها العبد ، علمي أكمل من علمك فكن مشتغلاً بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك وهواك . فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة

{ إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] .