قرئ{[3285]} : " كَتَبَ عَلَيْكُمُ القِتَالَ " : ببناء " كَتَب " للفاعل ؛ وهو ضمير الله تعالى ، ونصبِ " القِتَالِ " .
قال القرطبي : وقرأ قومٌ : " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقَتْلُ " ؛ قال الشاعر : [ الخفيف ]
1048 أ - كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقَتَالُ عَلَيْنَا *** وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذُيُولِ{[3286]}
قوله تعالى : " وَهُوَ كُرْهٌ " هذه واو الحال ، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها ، والظاهر أنَّ " هو " عائدٌ على القتال . وقيل : يعود على [ المصدر ] المفهوم من كتب ، أي : وكتبه وفرضه . وقرأ الجمهور " كُرْهٌ " بضمِّ الكاف ، وهو الكراهية بدليل قوله : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ وضع المصدر موضع الوصف سائغٌ كقول الخنساء : [ البسيط ]
1048ب - . . . *** فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَادْبَارُ{[3287]}
والثاني : أن يكون فعلاً بمعنى مفعولٍ ، كالخبر بمعنى المخبور وهو مكروهٌ لكم{[3288]} .
وقرأ السُّلميُّ{[3289]} بفتحها . فقيل : هما بمعنًى واحدٍ ، أي : مصدران كالضَّعف والضُّعف ، قاله الزَّجاج{[3290]} وتبعه الزمخشري .
وقيل : المضمومُ اسمُ مفعولٍ ، والمفتوح المصدر .
وقيل : المفتوح بمعنى الإكراه ، قاله الزمخشري في توجيه قراءة السُّلميِّ ، إلاَّ أنَّ هذا من باب مجيء المصدر على حذف الزوائد ، وهو لا ينقاس .
وقيل : المفتوح ما أُكره عليه المرء ، والمضموم ما كرهه هو .
فإن كان " الكَرْهُ " ، و " الكُرْهُ " مصدراً ، فلا بدَّ من تأويل يجوز معه الإخبار به عن " هو " ، وذلك التأويل : إمَّا على حذف مضافٍ ، أي : والقتال ذو كرهٍ ، أو على المبالغة ، أو على وقوعه موقع اسم المفعول . وإن قلنا : إنَّ " كُرْهاً " بالضَّمِّ اسم مفعولٍ ، فلا يحتاج إلى شيء من ذلك . و " لَكُمْ " في محلِّ رفعٍ ؛ لأنه صفة لكره ، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي : كرهٌ كائنٌ .
اعلم أنه - عليه الصّلاة والسّلام - كان غير مأذونٍ له في القتال مدة إقامته بمكة ، فلمَّا هاجر أُذن له في قتال من يقاتله من المشركين ، ثمَّ أُذن له في قتال المشركين عامَّةً ، ثم فرض الله الجهاد .
واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال عطاء : الجهاد تطوعٌ والمراد بهذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت دون غيرهم{[3291]} ، وإليه ذهب الثَّوْرِيُّ{[3292]} ، واحتجوا بقوله تعالى : { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [ النساء : 95 ] ولو كان القاعد تاركاً للفرض ، لم يكن يعده الحسنى .
قالوا : وقوله : " كُتِبَ " يقتضي الإيجاب ، ويكفي في العمل به مرَّةً واحدةً .
وقوله : " عَلَيْكُمْ " يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت ، وإنما قلنا إنَّ قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } [ البقرة : 178 ] { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [ البقرة : 183 ] حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك ؛ بدليلٍ منفصلٍ ، وهو الإجماع ، وذلك غير معقولٍ ها هنا ؛ فوجب أن يبقى على الأصل ، ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً }
[ التوبة : 122 ] والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه ، والإجماع اليوم منعقدٌ على أنه من فروض الكفايات{[3293]} ، إلاَّ أن يدخل المشركون ديار المسلمين ؛ فيتعيّن الجهاد حينئذٍ على الكلِّ .
وقال آخرون : هو فرض عينٍ ؛ واحتجُّوا بقوله : " كُتِبَ " وهو يقتضي الوجوب ، وقوله " عَلَيْكُمْ " يقتضيه أيضاً ، والخطاب بالكاف في قوله " عَلَيْكُمْ " لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد ؛ كقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [ البقرة : 183 ] .
وقال الجمهور : هو فرضٌ على الكفاية .
فإن قيل هذا الخطاب للمؤمنين ، فكيف قال : { وَهُوَ كُرهٌ لَكُم } ، وهذا يشعر بكون المؤمنين كارهين لحكم الله ، وتكليفه ، وذلك غير جائزٍ ؛ لأن المؤمن لا يكون ساخطاً لأوامر الله وتكليفه ، بل يرضى بذلك ، ويحبُّه ، ويعلم أنه صلاحه ، وتركه فساده ؟
أحدهما : أن المراد من " الكُرْهِ " كونه شَاقّاً على النفس ، لأن التكليف عبارةٌ عن إلزام ما فيه كلفةٌ ، ومشقةٌ ، ومن المعلوم : أن الحياة من أعظم ما يميل الطبع إليها ، فلذلك كان القتال من أشقِّ الأشياء على النفس ، لأنَّ فيه إخراج المال ، والجراحات ، وقطع الأطراف ، وذهاب الأنفس ، وذلك أمرٌ يشق على الأنفس .
والثاني : أن يكون المراد منه كراهتهم للقتال قبل أن يفرض ؛ لما فيه من الخوف ، ولكثرة الأعداء فبيَّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خيرٌ لكم من تركه ، لئلاَّ تكرهونه بعد أن فرض عليكم .
قال عكرمة{[3294]} : نسخها قوله تعالى : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النساء : 46 ] يعني أنهم كرهوه ثم أحبوه .
قوله { وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا } ، " عَسَى " فعلٌ ماضٍ ، نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإشفاق ، وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبر ، ولا يكون خبرُها إلا فِعلاً مضارعاً مقروناً ب " أَنْ " ، وقد يجيءُ اسماً صريحاً ؛ كقوله [ الرجز ]
أَكْثَرْتَ فِي العَذْلِ مُلِحّاً دَائِمَا *** لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا{[3295]}
وقالت الزَّبَّاءُ : " عَسَى الغُوَيْرُ أَبُؤُسَا{[3296]} " وقد يَتَجَرَّد خبرها مِنْ " أَنْ " ؛ كقوله : [ الطويل ]
عَسَى فَرَجٌ يأْتِي بهِ اللَّهُ إِنَّهُ *** لَهُ كُلَّ يَوْمٍ في خَلِيقَتِهِ أَمْرُ{[3297]}
عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ *** يَكُونُ وَرَاءَه فَرَجٌ قَرِيبُ{[3298]}
فَأَمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولَكِن *** عَسَى يغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ{[3299]}
وتكونُ تامّة ، إذا أُسندَتْ إلى " أَنْ " أَوْ " أنَّ " ؛ لأنهما يَسدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها ، والأصحُّ أنها فِعْلٌ ، لا حرفٌ ، لاتصالِ الضمائر البارزةِ المرفوعةِ بها .
قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } [ محمد : 22 ] ويرتفع الاسم بعده فقوله : " عَسَى زَيْدٌ " معناه : قرب ووزنُها " فَعَل " بفتح العين ، ويجوز كسر عينها ، إذا أسندت لضمير متكلم ، أو مخاطبٍ أو نون إناثٍ وهي قراءةُ نافعٍ{[3300]} ، وستأتي إن شاء الله تعالى ولا تتصرَّفُ بل تلزمُ المضيَّ . والفرقُ بين الإشفاق والترجِّي بها في المعنى :
أنَّ الترجِّي في المحبوبات ، والإشفاقَ في المَكروهات .
و " عَسَى " من الله تعالى واجبةٌ ؛ لأنَّ الترجِّي والإشفاق محالانِ في حقَّه . وقيل : كلُّ " عَسَى " في القرآن للتحقيق ، يعنُون الوقوعَ ، إِلاَّ قوله تعالى : { عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } [ التحريم : 5 ] وهي في هذه الآية ليسَت ناقصة ؛ فتحتاج إلى خبرٍ ، بل تامةٌ ، لأنها أُسْندت إلى " أَنْ " ، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مَسدَّ الخبرين بعدها . وزعم الحُوفيُّ أَنَّ : " أَنْ تَكْرَهُوا " في محلِّ نصبٍ ، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد .
قوله : { وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، وإنْ كانَتْ من النكرة بغيرِ شرطٍ من الشروط المعروفة قليلةً .
والثاني : أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ ل " شَيْئاً " وإنما دخلت الواو على الجملة الواقعة صفة ؛ لأنَّ صورتها صورةُ الحالِ ، فكما تدخل الواو عليها حاليةً ، تدخلُ عليها صفةً ، قاله أبو البقاء ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشريّ في قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] فجعل " وَلَهَا كِتَابٌ " صفةً لقريةٍ ، وقال : وكانَ القياسُ ألاَّ تتوسَّطَ هذا الواو بينهما ؛ كقوله :
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسَّطَت ؛ لتأكيد لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ ، كما يُقالُ في الحالِ : " جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ ، وعليه ثوبٌ " . وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا ، والزمخشريُّ هناك ، هو رأيُ ابن جِنّي ، وسائرُ النحاة يُخالفونه .
قوله : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } لأنّ في الغزو إحدى الحسنيين : إمَّا الظفرُ والغنيمةُ ، وإِمَّا الشهادة والجنةُ { وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً } يعني القُعُود عن الغزو ، وهو شرٌّ لكم ؛ لما فيه من فواتِ الغنيمة ، والأَجرِ ، ومخالفةِ أَمر اللَّهِ تعالى .
قال القُرطبي{[3301]} : قِيْلَ " عَسَى " بمعنى " قَدْ " وقال الأَصمُّ{[3302]} : و " عَسَى " مِنَ اللَّهِ واجبةٌ في جميع القرآن إِلاَّ قولُه تعالى : { عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً } [ التحريم : 5 ] .
وقال أبو عبيدة{[3303]} : عَسَى من اللَّهِ إيجابٌ ، والمعنى : عسى أنْ تكرهُوا ما في الجهادِ من المشقَّةِ ؛ وهو خيرٌ لكم ، من أَنَّكُمْ تغلبون ، وتظفرون وتغنمون ، وتُؤجرون ، ومَنْ مات ، مات شهيداً . و " الشَّرُّ " هو السُّوء أصله : من شَرَرْتُ الشيء إذا بسطتهُ يقال : شَرَرْتُ اللحم ، والثوب : إذا بسطته ، ليجف ؛ ومنه قوله : [ الوافر ]
وَحَتَّى أُشُرَّتْ بِالأَكُفِّ المَصَاحِفُ *** . . .
والشَّررُ : هو اللَّهب لانبساطه . فعلى هذا " الشَّرُّ " انبساطُ الاشياء الضارةِ ، وقوله { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فالمقصود الترغيبُ العظيمُ في الجهادِ ، وكأنه تعالى قال يا أيها العبد ، اعلمْ أَنَّ علمي أكملُ من علمك ، فكُنْ مشتغلاً بطاعتي ، ولا تلتفتْ إلى مُقتضى طبعك ، فهي كقوله في جواب الملائكة : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }