المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (216)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( 216 )

و { كتب } معناه فرض ، وقد تقدم مثله ، وهذا هو فرض الجهاد ، وقرأ قوم «كتب عليكم القتل »( {[2007]} ) .

وقال عطاء بن أبي رباح : «فرض القتال على أعيان أصحاب محمد ، فلما استقر الشرع وقيم به صار على الكفاية » ، وقال جمهور الأمة : أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد فرض كفاية ، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين ، إلا أن ينزل العدو بساحة للإسلام ، فهو حينئذ فرض عين( {[2008]} ) ، وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال : الجهاد تطوع . وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد . فقيل له : ذلك تطوع( {[2009]} ) وال { كُره } بضم الكاف الاسم ، وفتحها المصدر .

وقال قوم «الكَره » بفتح الكاف ما أُكره المرء عليه ، و «الكُره » ما كرهه هو( {[2010]} ) .

وقال قوم : هما بمعنى واحد .

وقوله تعالى { وعسى أن تكرهوا شيئاً } الآية( {[2011]} ) ، قال قوم { عسى } من الله واجبة( {[2012]} ) ، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة { وهو خير لكم } في أنكم تغلبون وتظهرون وتغنمون وتؤجرون ، ومن مات مات شهيداً ، { وعسى أن تحبوا } الدعة وترك القتال { وهو شر لكم } في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم ، وفي قوله تعالى { والله يعلم } الآية قوة أمر( {[2013]} ) .


[2007]:- جمعت القراءتان في قول عمر بن أبي ربيعة: كُتِبَ القَتْلُ والقِتَال علينا وَعَلى الغَـانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُـولِ
[2008]:- أجمع المفسرون على أن هذه الآية دالة على وجوب الجهاد وجوبا كفائيا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى غيرهم، إلا عند الاستنفار العام أو هجوم العدو على الإسلام ما عدا عطاء فإنه قال بوجوبه عيناً على الصحابة، وكفائيا على غيرهم. تنبيه: سيف الجهاد والقتال هو آية العز والنصر، وبه انتشرت المبادئ والمذاهب، وأُيدت الشرائع والقوانين، وبه حمي الإسلام من عبث العابثين والمرجفين، إلا أن السيف لم يجرد للإلزام والاقناع، بل لحماية الدعوة ونصر الأتباع. ومعنى هذا أن المسلمين يجب عليهم أن ينصروا دينهم بالسيف إذا تعرض للطعن أو للهجوم.
[2009]:- أي تُحمل على سؤال سائل قيل له: إن ذلك تطوع في حقك، وقد قام الناس بالجهاد.
[2010]:- في المصباح – قال الزجاج: كل مافي القرآن من الكُره بالضم فالفتح فيه جائز إلا قوله في سورة البقرة: [كتب عليكم القتال وهو كره لكم] اهـ.
[2011]:- ها هنا أمور أربعة: محبوب يوصل إلى محبوب، ومكروه يوصل إلى مكروه، ومحبوب يوصل إلى مكروه ومكروه يوصل إلى محبوب، فالمحبوب الموصل إلى محبوب قد اجتمع فيه داعي الفعل من جهتين، والمكروه الموصل إلى مكروه اجتمع فيه داعي الترك من جهتين، والقسمان الباقيان هما معترك الابتلاء والاختبار، فالنفس تؤثر أقربهما، والعقل يؤثر أنفعهما، والقلب بين الداعيين إلى هذا مرة وذاك أخرى. وداعي العقل والإيمان ينادي دائما: حي على الفلاح، عند الصباح يحمد القوم السُّرى، وعند الممات يحمد العبد التقى، وعقلاء الدنيا يتحملون المشارق والمتاعب والمكاره لما يعقبها من اللذة والمنفعة وإن كانت منقطعة لأنها جزء من الدنيا المنقطعة، وفي هذا المعنى يقول أبو سعيد الضرير: ربَّ أمــر تتَّقِـيـــــهِ جَــرَّ أمْــراً تَرتَضِــيـهِ خَفِــيَ المحْبُــوبُ مِنْــهُ وبَــدا المَكْـــرُوه فِيــهِ ويقول القائل أيضا: كرهتُ وكان الخير فيما كَرهْتُهُ وأحْبَبْتُ أمراً كان فيه شَبَا القَتْل وللقاضي إسماعيل: ومَسَــــرَّةٍ قـد أقْبَلَــتْ مِنْ حيثُ تُنْتَظَـرُ المَصائِـبُ فاعْجَـبْ لمـا هـو كائِــنٌ إنَّ الزَّمــان أبو العَجَـائِبْ
[2012]:- بمعنى أنها محققة الوقوع.
[2013]:- في قوله تعالى: [والله يعلم وأنتم لا تعلمون] الإشارة إلى المبادرة إلى ما يأمر به الله تعالى وإنْ شقَّ، والرضى بما جرى به القضاء والقدر.