التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (216)

قوله تعالى : ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ( كتب ) فعل مبني للمجهول . ( القتال ) نائب فاعل . ( وهو كره لكم ) الواو للحال والجملة الاسمية من المبتدأ والخبر في محل نصب حال .

وفي هذه الآية فرض القتال على هذه الأمة ؛ لما في القتال من ترسيخ لقواعد الدين والشريعة وتثبيت لأسس الحق والعدل والأخلاق . ولما في القتال كذلك من درء لأسباب الشر والأشرار وتبديد لمعالم الفساد والمنكر وإذهاب لدعاة الجريمة والباطل من وجه الأرض . ولولا القتال الذي شرعه الإسلام لاستعلى المبطلون والأشرار ونفخوا بكيرهم في الأرض لينفثوا معالم الفساد بكل صوره وأشكاله ولظلت دعوة الحق واليقين عاجزة عن أب انتشار أو بلوغ للأسماع والأذهان .

أما الجهاد من حيث حكمه في الشريعة فهو فرض على الكفاية إذا اضطلع به فريق من المسلمين سقطت فرضيته عن الباقين من المكلفين في هذه الأمة ، وتظل فرضية الجهاد على الكفاية إلا أن يتجاوز العدو في عدوانه فيجوس خلال المسلمين ويحتل جزءا من ديارهم . وفي مثل هذه الحال يصبح القتال فرض عين ، أي تنشغل ذمة كل مسلم مكلف بعينه بفرضية القتال ، فلا تبرأ هذه الذمة من هذا الواجب إلا بتأدية القتال ، وذلك ما قام عليه إجماع المسلمين حول هذه القضية الهامة ، ولا يفرط المسلمون في هذا الواجب العظيم إلا وتحيط بهم غواشي المهانة والذل ، وتأخذهم قوارع التهديد والعدوان من كل مكان ، تلك القوارع التي ما فتئت تتوالى على المسلمين فتذيقهم الويل والثبور والذل .

وقوله : ( وهو كره لكم ) أي أن الطباع تكره القتال ؛ لما يفضي إليه من مخاطر الموت أو الجرح أو الخوف أو غير ذلك من مقتضيات الحروب .

وقوله : ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) عسى من الله في القرآن واجبة كما قيل . والمعنى المراد على وجه الخصوص في هذه الآية أن الناس عسى أن يكرهوا القتال ، لما فيه من كرب ومشقة واحتمالات الضرر الخاص ، ولكنه في النهاية سوف يفضي إلى خير كبير وهو النصر على أعداء الله وتحطيم شوكته والتمكين لهذه الأمة في الأرض لتصيح أمة قوية متمكنة . إلى غير ذلك من وجوه الأمن والاستقرار وتحصيل الخير والرزق والسعادة . وأما المعنى المراد على وجه العموم . أن المرء ربما كره شيئا لما يحسب أنه شر وأنه يؤول إلى نتيجة غير مرضية ، وذلك بناء على حسابات الإنسان وتقديراته القاصرة والتي يعوزها الكمال في المعرفة أو الكشف عما يبطنه الغيب من مجاهيل وأخباء . حتى إذا خاص المرء غمار ما كره وجد أنه الخير وأن ما كان يخشاه ويكرهه قد أفضى به إلى الخير والمنفعة .

قوله : ( وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) عسى أن يرغب المرء في الدعة والقعود دون الجهاد إيثارا للراحة وعدم المشقة والعناء ، لكن ذلك سيودي به وبالآخرين إلى هاوية الذلة والاستعباد ، وإلى الخنوع للكافرين الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر ، ويعلمون على تدميرهم والقضاء عليهم قضاء تاما .

وكذلك ربما رغب المرء في شيء ظنا أنه خير ، لكنه محسوب في علم الله سرا ، وأنه يقود إلى خسران وفشل لا يعلمهما من قبل إلا الله ، فليس للمرء في هذه القضايا إلا أن يستسلم لتقدير الله ومشيئته ، وأن يرضى بما جعله الله قدرا مقدورا . وإن ذلك ما كان صدفة أو عشوائية ولكنه معلوم مقدر محسوب . والإنسان مهما علم فإنه لا يتجاوز بعلمه نطاق المستطاع المحدود . وهو لا يبرحه الضعف والإحساس بالبساطة والهوان إلا أن يكون جاهلا مغرورا . فإن ظن أنه أكبر من حجمه ومقدوره فقد ظلم نفسه وغار بها في غياهب الضلالة والضياع ، وليس أصدق ولا أجمل ولا أكمل من العبارة الربانية الجلية القصيرة إذ يقول سبحانه : ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) أي يعلم ما يصلحكم وما خير لكم في دنياكم وأخراكم ، أما أنتم فلا تعلمون ذلك{[292]} .


[292]:- الكشاف جـ 1 ص 356 وتفسير النسفي جـ 1 ص 107