ولما أخبروا بما سألوا عنه من إحدى الخصلتين المضمنتين لآية الزلزال كان ذلك موضع السؤال عن الأخرى فأجيبوا{[9605]} على طريق الاستئناف بقوله : { كتب }{[9606]} . وقال الحرالي : لما التف{[9607]} حكم الحج بالحرب تداخلت آيات اشتراكهما{[9608]} وكما تقدم تأسيس فرض الحج في آية{ فمن فرض فيهن الحج }[ البقرة : 197 ] انتظم{[9609]} به كتب القتال ، والفرض من الشيء ما ينزل بمنزلة{[9610]} الجزء منه ، والكتب ما خُرز{[9611]} بالشيء فصار كالوصلة فيه ، كما جعل الصوم لأن في الصوم جهاد النفس كما أن في القتال جهاد العدو ، فجرى ما شأنه المدافعة بمعنى الكتب وما شأنه العمل والإقبال بمعنى الفرض ، وهما معنيان مقصودان في الكتاب والسنة تحق{[9612]} العناية بتفهمهما{[9613]} لينزل كل من القلب في محله ويختص{[9614]} النية في كل واحد على وجهه وقد كان من أول منزلة{[9615]} آي القتال{ أذن للذين يقاتلون{[9616]} } [ الحج : 39 ] فكان الأول إذناً لمن شأنه المدافعة عن الدين بداعية من نفسه من نحو ما كانت الصلاة قبل الفرض واقعة من الأولين بداعية من حبهم لربهم ورغبتهم إليه{[9617]} في الخلوة به والأنس بمناجاته فالذين كانت صلاتهم حباً كان الخطاب لهم بالقتال إذناً لتلفتهم إليه{[9618]} في بذل أنفسهم لله الذين كان ذلك حباً لهم يطلبون الوفاء به{[9619]} حباً للقاء ربهم بالموت كما أحبوا {[9620]} لقاء ربهم{[9621]} بالصلاة{[9622]} " {[9623]} حين عقلوا{[9624]} " وأيقنوا أنه لا راحة لمؤمن إلا في لقاء ربه ، فكان من عملهم لقاء ربهم بالصلاة في السلم ، وطلب لقائه بالشهادة " {[9625]} في الحرب{[9626]} " ، فلما اتسع أمر الدين ودخلت الأعراب والأتباع الذين لا يحملهم صدق المحبة للقاء الله على البدار للجهاد {[9627]} نزل كتبه{[9628]} كما نزل{[9629]} فرض الصلاة استدراكاً فقال : { {[9630]} كتب عليكم القتال{[9631]} } {[9632]} أي أيتها الأمة{[9633]} ! وكان في المعنى راجعاً لهذا الصنف الذين يسألون عن النفقة ، وبمعنى ذلك انتظمت الآية بما قبلها فكأنهم يتبلدون في الإنفاق تبلداً إسرائيلياً ويتقاعدون عن الجهاد تقاعد أهل التيه منهم الذين قالوا :اذهب أنت وربك فقاتلا{[9634]} } [ المائدة : 24 ] انتهى . { {[9635]} وهو كره{[9636]} } وهو ما يخالف غرض النفس وهواها ، ولعله لكونه لما كان خيراً عبر باللام في { لكم{[9637]} } وهذا باعتبار الأغلب وهو كما قال الحرالي عند المحبين للقاء الله من أحلى{[9638]} ما تناله أنفسهم حتى كان ينازع الرجل منهم في أن يقف فيقسم على الذي يمسكه أن يدعه والشهادة ، قال بعض التابعين : لقد أدركنا قوماً كان الموت لهم أشهى من الحياة عندكم اليوم{[9639]} وإنما كان ذلك لما خربوه{[9640]} من دنياهم وعمروه من أخراهم فكانوا يحبون النقلة من الخراب إلى العمارة - انتهى{[9641]} .
ولما كان هذا{[9642]} مكروهاً{[9643]} لما فيه على{[9644]} المال{[9645]} من المؤونة وعلى النفس من المشقة وعلى الروح من الخطر من حيث الطبع شهياً{[9646]} لما فيه{[9647]} من الوعد{[9648]} بإحدى{[9649]} الحسنيين{[9650]} من حيث الشرع أشار إلى ذلك بجملة حالية فقال : { {[9651]}وعسى أن{[9652]} } وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة براءة من شرح معاني { عسى{[9653]} } ما يوضح أن المعنى : وحالكم جدير{[9654]} وخليق لتغطية{[9655]} علم العواقب عنكم بأن { تكرهوا شيئاً }{[9656]} أي كالغزو{[9657]} فتعرضوا عنه {[9658]}لظنكم أنه شر لكم{[9659]} { وهو } أي{[9660]} والحال أنه{[9661]} { خير لكم } {[9662]}لما فيه من الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة{[9663]} فإنكم لا تعلمون والذي كلفكم ذلك عالم بكل شيء غير محتاج إلى شيء وما كلفكم ذلك إلا لنفعكم . قال الحرالي : فشهد{[9664]} - لهم لما{[9665]} لم يشهدوا مشهد الموقنين الذين يشاهدون غيب الإيمان كما يشهدون عن الحس ، كما قال{[9666]} ثعلبة : " كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وأنظر إلى أهل النار في النار يعذبون " ولم يبرم لهم الشهادة ولكن ناطها بكلمة { عسى } لما علمه من ضعف قبول من خاطبه بذلك ، وفي إعلامه إلزام بتنزل العلي الأدنى رتبة لما أظهر هذا الخطاب من تنزل الحق في مخاطبة الخلق إلى حد مجاوزة{[9667]} المترفق{[9668]} في الخطاب - انتهى .
ولما رغبهم سبحانه وتعالى في الجهاد بما{[9669]} رجاهم{[9670]} فيه من الخير رهبهم من القعود{[9671]} عنه بما يخشى فيه من الشر . قال الحرالي : فأشعر أن المتقاعد له في تقاعده آفات وشر في الدنيا والآخرة ليس أن لا ينال خير الجهاد فقط بل وينال شر التقاعد والتخلف - انتهى . {[9672]}فقال تعالى{[9673]} : { وعسى{[9674]} أن تحبوا شيئاً } أي كالقعود{[9675]} فتقبلوا {[9676]}عليه لظنكم أنه خير لكم{[9677]} { وهو } {[9678]}أي والحال أنه{[9679]} { شر لكم } {[9680]}لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر{[9681]} وليس أحد منكم إلا قد جرب مثل{[9682]} ذلك مراراً في أمور دنياه ، فإذا صح ذلك في فرد صار كل شيء كذلك في إمكان خيريته وشريته فوجب ترك الهوى والرجوع إلى العالم المنزه عن الغرض ولذلك قال {[9683]}عاطفاً على ما تقديره : فالله قد حجب عنكم سر التقدير{[9684]} { والله } {[9685]}أي الذي له الإحاطة الكاملة{[9686]} { يعلم } أي {[9687]}له علم{[9688]} كل شيء وقد أخبركم في صدر هذا الأمر أنه رؤوف بالعباد فهو لا يأمركم إلا بخير .
وقال الحرالي : شهادة بحق{[9689]} العلم يرجع إليها عند الأغبياء{[9690]} في تنزل الخطاب - انتهى .
{[9691]}والآية من الاحتباك ذكر الخير أولاً دال على حذفه ثانياً وذكر الشر ثانياً دال على حذفه مثله أولاً{[9692]} .
ولما أثبت سبحانه وتعالى شأنه العلم لنفسه نفاه عنهم فقال : { وأنتم لا تعلمون * ] أي ليس لكم من أنفسكم علم وإنما عرض لكم ذلك من قبل ما علمكم فثقوا به {[9693]}وبادروا إلى كل ما يأمركم به وإن شق{[9694]} . وقال الحرالي{[9695]} : فنفى العلم عنهم لكلمة " لا " أي التي هي للاستقبال{[9696]} حتى تفيد دوام الاستصحاب{ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً{[9697]} }[ الإسراء : 85 ] قال من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم ، وأما المؤمنون أي الراسخون فقد علمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شر لهم - انتهى . حتى أن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب ، " حتى شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى غزوة بدر " فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن ، ثم قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن ، ثم قام المقداد{[9698]} رضي الله تعالى عنه فقال : يا{[9699]} رسول الله ! امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فاذهب{[9700]} أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون{[9701]} } [ المائدة : 24 ] ولكن اذهب أنت وربك{[9702]} فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ! لو سرت{[9703]} إلى برك الغماد{[9704]} لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه{[9705]} ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشيروا عليّ أيها الناس ! فقال{[9706]} سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله تعالى عنه : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل ، {[9707]}قال : فقد{[9708]} آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك . فوالذي بعثك بالحق ! لو استعرضت{[9709]} بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ! ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن {[9710]}تلقى بنا{[9711]} عدونا غداً ! إنا لصبر{[9712]} في الحرب صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله تعالى " .