وبعد هذا الحديث عن أنواع الناس ، وعن أقوال المشركين الفاسدة ، وعن سوء عاقبتهم ، ساق - سبحانه - جانبا من قصة نوح وإبراهيم - عليهما السلام - فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً . . . إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
قال الآلوسى : قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } . شروع فى بيان افتتان الأنبياء - عليهم السلام - بأذية أممهم ، إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدا للانكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإِيمان بلا ابتلاء ، وحثا لهم على الصبر ، فإن الأنبياء - عليهم السلام - حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها ، فلأن يصبر هؤلاء المؤمنون أولى وأحرى . .
و " نوح " - عليه السلام - ينتهى نسبه إلى شيت بن آدم ، وقد ذكر نوح فى القرآن فى ثلاث وأربعين موضعا ، وجاءت قصته مع قومه بصورة فيها شئ من التفصيل ، فى سور : هود والأعراف ، والمؤمنون ، ونوح .
وقوم الرجل : أقرباؤه الذين يجتمعون معه فى جد واحد . وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازا للمجاورة .
وكان قوم نوح يعبدون الأصنام ، فأرسل الله - تعالى - إليهم نبيهم نوحا ، ليدلهم على طريق الحق والرشاد .
والمعنى : ولقد أرسلنا نبينا نوحا - عليه السلام - إلى قومه ، لكى يأمرهم بإخلاص العبادة لنا ، وينهاهم عن عبادة غيرنا { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } يدعوهم إلى الدين الحق ، ليلا ونهارا ، وسرا وعلانية .
قالوا : بعث الله نوحا وهو فى سن الأربعين من عمره ، ولبث يدعو قومه إلى عبادة الله - تعالى - وحده ، ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة ، فيكون عمره كله ألف سنة وخمسين سنة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فلم جاء المميز أولا بالسنة ، وثانيا بالعام ؟ قلت : لأن تكرير الفظ الواحد ، حقيق بالاجتناب فى البلاغة ، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض يبتغيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك .
والمقصود بذكر هذه المدة الطويلة التى قضاها نوح - عليه السلام - مع قومه ، تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم - وتثبيته ، فكأن الله - تعالى - يقول له : يا محمد لقد لبث أخوك نوح تلك المدة الطويلة ، ومع ذلك لم يؤمن معه إلا قليل ، فعليك أن تقتدى به فى صبره ، وفى مطاولته لقومه .
وقوله - سبحانه - { فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ } بيان لسوء عاقبة المكذبين لنوح - عليه السلام - بعد أن مكث فيهم تلك المدة الطويلة .
والطوفان : قد يطلق على كل ما يطوف بالشئ على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام ، وقد غلب إطلاقه على طوفان الماء ، وهو المراد هنا .
أى مكث نوح فى قومه ألف سنة إلا خسين عاما يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - ولكنهم كذبوه ، فأخذهم الطوفان ، والحال أنهم كانوا مستمرين على الظلم والكفر ، دون أن تؤثر فيهم مواعظ نبيهم ونذره .
هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه ، يخبره عن نوح{[22510]} عليه السلام : أنه مكث{[22511]} في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا ، وسرا ، وجهارًا ،
ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فرارا عن الحق ، وإعراضا عنه وتكذيبا له ، وما آمن معه منهم إلا قليل ؛ ولهذا قال : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } أي : بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإنذار ، فأنت - يا محمد - لا تأسف على مَنْ كفر بك من قومك ، ولا تحزن عليهم ؛ فإن الله يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء ، وبيده الأمر وإليه ترجع{[22512]} الأمور ، { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] ، واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك ، ويذل عدوّك ، ويكبتهم ويجعلهم أسفل السافلين .
قال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن ماهَك{[22513]} ، عن ابن عباس قال : بعث نوح وهو لأربعين سنة ، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطوفان ستين عاما ، حتى كثر الناس وفشوا .
وقال قتادة : يقال إن عمره كله [ كان ]{[22514]} ألف سنة إلا خمسين عاما ، لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة ، ودعاهم ثلثمائة ولبث بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة .
وهذا قول غريب ، وظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما .
وقال عون بن أبي شداد : إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلثمائة سنة ، فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك ثلثمائة وخمسين سنة .
وهذا أيضا غريب ، رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وقول ابن عباس أقرب ، والله أعلم .
وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مجاهد قال : قال لي ابن عمر : كم لبث نوح في قومه ؟ قال : قلت ألف سنة إلا خمسين عاما . قال : فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } .
وهذا وعيد من الله تعالى ذكره هؤلاء المشركين من قريش ، القائلين للذين آمنوا : اتبعوا سبيلنا ، ولنحمل خطاياكم ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يحزننك يا محمد ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى ، فإني وإن أمليت لهم فأطلت إملاءهم ، فإن مصير أمرهم إلى البوار ، ومصير أمرك وأمر أصحابك إلى العلوّ والظفر بهم ، والنجاة مما يحلّ بهم من العقاب ، كفعلنا ذلك بنوح ، إذ أرسلناه إلى قومه ، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد ، وفراق الاَلهة والأوثان ، فلم يزدهم ذلك من دعائه إياهم إلى الله من الإقبال إليه ، وقبول ما أتاهم به من النصيحة من عند الله إلاّ فرارا .
وذُكر أنه أُرسل إلى قومه وهو ابن ثلاث مئة وخمسين سنة ، كما :
حدثنا نصر بن عليّ الجهضمي ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، قال : حدثنا عون بن أبي شداد ، قال : إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاث مئة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مئة سنة فأخذهم الطوفان ، يقول تعالى ذكره : فأهلكهم الماء الكثير ، وكلّ ماء كثير فاش طامّ ، فهو عند العرب طوفان ، سيلاً كان أو غيره ، وكذلك الموت إذا كان فاشيا كثيرا ، فهو أيضا عندهم طوفان ومنه قول الراجز :
*** أفْناهُمُ طُوفان مَوْتٍ جارِفِ ***
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : فأخَذَهُمُ الطّوفانُ قال : هو الماء الذي أرسل عليهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : الطوفان : الغرق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.