قوله تعالى : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } . نزلت في ثقيف ، وخزاعة ، وعامر بن صعصعة ، وبني مدلج ، فيما حرموا على أنفسهم من الحرث ، والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، فالحلال ما أحله الشرع ( طيباً ) ، قيل : ما يستطاب ويستلذ ، والمسلم يستطيب الحلال ويخاف الحرام ، وقيل الطيب الطاهر .
قوله تعالى : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } . قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب بضم الطاء والباقون بسكونها ، وخطوات الشيطان آثاره وزلاته ، وقيل هي النذر في المعاصي . وقال أبو عبيدة : هي المحقرات من الذنوب . وقال الزجاج : طرقه .
قوله تعالى : { إنه لكم عدو مبين } . بين العداوة وقيل مظهر العداوة ، وقد أظهر عداوته بإبائه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة . وأبان يكون لازما ومتعديا ثم ذكر عداوته فقال : { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } .
ثم وجه القرآن نداء عاما إلى البشر أمرهم فيه بأن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات ، ونهاهم عن اتباع وساوس الشيطان فقال - تعالى - :
{ يا أيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً . . . }
{ كُلُواْ } صيغة أمر واردة في معنى الإِباحة .
و { حَلاَلاً } ما أذن الله في تناوله من مطعومات أو مشروبات .
قال الرازي : وأصله الذي هو نقيض العقد ، ومنه حل بالمكان إذا نزل ، لأنه حل شد الارتحال للنزول ، وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بانقضاء المدة ، وحل من إحرامه ، لأنه حل عقدة الإِحرام . . ثم قال : واعلم أن الحرام قد يكون حراما لخبثه - في ذاته - كالميتة والدم ولحم الخنزير ، وقد يكون حراماً لوصف عارض كملك الغير إذل لم يأذن في أكله - فحرمته لتعلق حق الغير به - فالحلال هو الخالي عن هذين القيدين .
{ طَيِّباً } : هو المستلذ المستطاب الذي تقبل عليه النفوس الطاهرة وتنبسط لتناوله ، وإنما تنبسط النفوس الطاهرة لتناول طعام غير قذر ولا موقع في تهلكة ، إذ القذر ينفر منه الطبع السليم ، والموقع في تهلكة يمجه العقل القويم .
و { من } في قوله : { مِمَّا فِي الأرض } للتبعيض ، لأن بعض ما في الأرض كالحجارة - مثلا - لا يؤكل ، ولأنه ليس كل ما يؤكل يجوز أكله فلذلك قال : { حَلاَلاً طَيِّباً . . } .
وقوله : { حَلاَلاً } مفعول به لقوله : " كلوا " أو حال مما في الأرض ، أي : كلوه حال كونه حلالا . أو صفة لمصدر محذوف ، أي : كلوه أكلا حلالا .
وقوله : { طَيِّباً } صفة مقررة ومؤكداً لمعنى يستفاد من قوله : { حَلاَلاً } وهو طهارة المأكول وخلوه من القذارة ، وعدم إيقاعه في ضرر .
قال الآلوسي : " وفائدة وصف الحلال بالطيب تعميم الحكم كما في قوله - تعالى - : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض } ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالاةت فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم ، بخلاف غير الموصوفة " .
والمعنى : يأيها الناس لقد أباح الله لكم أن تأكلوا من كل ما تحويه الأرض من المطعومات التي أحلت لكم ، والتي تستلذها النفوس الكريمة ، والقلوب الطاهرة ، فتمتعوا بهذه الطيبات في غير سرف أو غرور ، واشكروا الله - تعالى - على ما رزقكمو من نعم .
ولقد أمر الله عباده في كثير من الآيات أن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات ومن ذلك قوله - تعالى - : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وفي صحيح مسلم عن عياض المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته : " ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني ، يومي هذا . يقول الله - تعالى - : كل ما نحلته - أي منحته - عبادي فهو لهم حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً . . "
وعن ابن عباس قال : " تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم { ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً } فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال : يا سعد ! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً ، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به " .
وليس من الورع ولا الزهد المرضي عنه شرعا ترك بعض المباحاث ، فإن الله سوى في المباح بين الفعل والترك ، ومن يجعل ترك المباح من الورع ، والورع مندوب ، فكأنه يقول : إن الترك راجح على الفعل ، وهو غير ما حكم الله به .
وكان الحسن البصري - وهو من أجل التابعين - يقوم عوج من يعدون من الزهد المحمود الامتناع عن تناول بعض المباحات كالأطعمة اللذيذة .
يحكى عنه أنه شهد يوما وليمة ، فرأى رجلا يرفع يده عندما قدمت الحلوى فقال له الحسن : كل يا لكع فلنعمة الله عليك في الماء البارد أعظم من نعمته في هذه الحلوى .
ودخل عيه مرة أحد الزهاد فقال له الحسن : أتحب الخبيص - وهو طعام لذيذ - فقال الزاهد : لا أحبه ولا أحب من يحبه ! ! فأقبل الحبسن على جلسائه وقال لهم : أترونه مجنونا .
والخلاصة : أنه لا ورع في ترك المباح الذي أحله الله من حيث فيه متعة للنفس ، فذلك هو التنطع في الدين ، وإنما الورع في ترك الإِكثار من تناول تلك المباحات ، لأن الإِكثار منها قد يؤدي إلى الوقوع فيما نهى الله عنه .
هذا ، وقد أورد بعض المفسرين آثاراً تدل على أن هذه الآية نزلت في قوم معينين .
قال الآلوسي : نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وقيل نزلت في قوم من ثقيف وبني عامر ابن صعصعة وخزاعة وبين مدلج حيث حرموا التمر والاقط على أنفسهم .
والذي نراه أن الخطاب في الآية لجميع المكلفين من البشر ، وأنها واردة لتفنيد آراء الذين يحرمون على أنفسهم مطعومات لم يقم دليل من الشارع على تحريمها ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ثم قال - تعالى - { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } .
الخطوات : جمع خطوة كغرفة وقيل جمع خطوة كقبضة ، وهي في الأصل سما بين القدمين عند المشي ، وتستعمل على وجه المجاز في الآثار .
أي : كلوا أيها الناس من الطيبات التي أحلها الله لكم . ولا تتبعوا آثار الشيطان وزلاته ووساوسه وطرقه التي يحرم بها الحلال ويحلل الحرام والتي يقذفها في صدور بعض الناس فتجعلهم يتنقلون من الطاعات إلى المعاصي .
وفي الجملة الكريمة استعارة تمثيلية ، إذ أن السائر في طريق إذا رأى آثار خطوات السائرين تتبع ذلك المسلك ظناً منه بأن ما سار فيه السائر قبله إلا لأنه موصل للمطلوب ، فشبه المقتدي الذي لا دليل معه سوى المقتدي به وهو يظن مسلكه موصلا ، بالذي يتبع خطوات السائرين ، وشاعت هذه الاستعارة حتى صاروا يقولون هو يتبع خطا فلان بمعنى يقتدي به .
وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تعليل للنهي عن اتباع الشيطان و " مبين " من أبان بمعنى بان وظهر ، وقيل : من أبان بمعنى أظهر ، أي : مظهر للعداوة .
والمعنى : " ولا تتبعوا خطواته لأن عداوته ظاهرة لكم بحيث لا تخفى على أي عاقل .
بعد هذا يمضي السياق يدعو الناس إلى التمتع بطيبات الحياة ، والبعد عن خبائثها ، محذرا من اتباع الشيطان ، الذي يأمرهم بالخبائث ، والادعاء على الله في التحليل والتحريم بغير إذن منه ولا تشريع ؛ ويحذرهم من التقليد في شأن العقيدة بغير هدى من الله ، ويندد بالذين يدعون من دون الله ما لا يعقل ولا يسمع . . وبهذا يلتقي موضوع هذه الفقرة بموضوع الفقرة السابقة في السياق :
( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين . إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون . وإذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا . أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ؟ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء . صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) . .
لما بين الله - سبحانه - أنه الإله الواحد ، وأنه الخالق الواحد - في الفقرات السابقة - وأن الذين يتخذون من دون الله أندادا سينالهم ما ينالهم . . شرع يبين هنا أنه الرازق لعباده ، وأنه هو الذي يشرع لهم الحلال والحرام . . وهذا فرع عن وحدانية الألوهية كما أسلفنا . فالجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع فتحرم وتحلل . وهكذا يرتبط التشريع بالعقيدة بلا فكاك .
وهنا يبيح الله للناس جميعا أن يأكلوا مما رزقهم في الأرض حلالا طيبا - إلا ما شرع لهم حرمته وهو المبين فيما بعد - وأن يتلقوا منه هو الأمر في الحل والحرمة ، وألا يتبعوا الشيطان في شيء من هذا ، لأنه عدوهم ؛ ومن ثم فهو لا يأمرهم بخير ، إنما يأمرهم بالسوء من التصور والفعل ؛ ويأمرهم بأن يحللوا ويحرموا من عند أنفسهم ، دون أمر من الله ، مع الزعم بأن هذا الذي يقولونه هو شريعة الله . . كما كان اليهود مثلا يصنعون ، وكما كان مشركو قريش يدعون :
( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين . إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) . .
وهذا الأمر بالإباحة والحل لما في الأرض - إلا المحظور القليل الذي ينص عليه القرآن نصا - يمثل طلاقة هذه العقيدة ، وتجاوبها مع فطرة الكون وفطرة الناس . فالله خلق ما في الأرض للإنسان ، ومن ثم جعله له حلالا ، لا يقيده إلا أمر خاص بالحظر ، وإلا تجاوز دائرة الاعتدال والقصد . ولكن الأمر في عمومه أمر طلاقة واستمتاع بطيبات الحياة ، واستجابة للفطرة بلا كزازة ولا حرج ولا تضييق . . كل أولئك بشرط واحد ، هو أن يتلقى الناس ما يحل لهم وما يحرم عليهم من الجهة التي ترزقهم هذا الرزق .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 168 )
الخطاب عام و { ما } بمعنى الذي ، و { حلالاً } حال من الضمير العائد على { ما } ، وقال مكي : نعت لمفعول محذوف تقديره شيئاً حلالاً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يبعد( {[1531]} ) ، وكذلك مقصد الكلام لا يعطي أن يكون { حلالاً } مفعولاً ب { كلوا } وتأمل ، و { طيباً } نعت ، ويصح أن يكون { طيباً } حالاً من الضمير في { كلوا } تقديره مستطيبين( {[1532]} ) ، والطيب عند مالك : الحلال ، فهو هنا تأكيد لاختلاف اللفظ ، وهو عند الشافعي : المستلذ( {[1533]} ) ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث ، و { خطوات } جمع خطوة وهي ما بين القدمين في المشي ، فالمعنى النهي عن اتباع الشيطان وسلوك سبله وطرائقه ، قال ابن عباس : خطواته أعماله ، قال غيره : آثاره( {[1534]} ) ، قال مجاهد : خطاياه ، قال أبو مجلز( {[1535]} ) : هي النذور والمعاصي ، قال الحسن : نزلت فيما سنوه من البحيرة والسائبة ونحوه ، قال النقاش : نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب( {[1536]} ) .
وقرأ ابن عامر والكسائي «خطوات » بضم الخاء والطاء ، ورويت عن عاصم وابن كثير بخلاف ، وقرأ الباقون بسكون الطاء ، فإما أرادوا ضم الخاء والطاء وخففوها إذ هو الباب في جمع فعلة كغرفة وغرفات ، وإما أنهم تركوها في الجمع على سكونها في المفرد ، وقرأ أبو السمال «خَطَوات » بفتح الخاء والطاء وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعمش وسلام ( {[1537]} )«خطؤات » بضم الخاء والطاء وهمزة على الواو ، وذهب بهذه القراءة إلى أنها جمع خطأة من الخطأ لا من الخطو . وكل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي فهي خطوات الشيطان ، و { عدو } يقع للمفرد والتثنية والجمع .
استئناف ابتدائي هو كالخاتمة لتشويه أحوال أهل الشرك من أصول دينهم وفروعه التي ابتدأ الكلام فيها من قوله تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة } [ البقرة : 161 ] الآية ، إذْ ذَكر كفرهم إجمالاً ثم أبطله بقوله : { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] واستدل على إبطاله بقوله : { إن في خلق السموات والأرض } [ البقرة : 164 ] الآيات ثم وصف كفرهم بقوله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165 ] ، ووصف حالهم وحسرتهم يوم القيامة ، فوصف هنا بعض مساوىء دين أهل الشرك فيما حرموا على أنفسهم مما أخرج الله لهم من الأرض ، وناسب ذكره هنا أنه وقع بعد ما تضمنه الاستدلال على وحدانية الله والامتنان عليهم بنعمته بقوله : { إن في خلق السموات والأرض } إلى قوله : { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابةٍ } [ البقرة : 164 ] الآية ، وهو تمهيد وتلخيص لما يعقبه من ذكر شرائع الإسلام في الأطعمة وغيرها التي ستأتي من قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } [ البقرة : 172 ] .
فالخطاب بيأيها الناس موجه إلى المشركين كما هو شأن خطاب القرآن بيأيها الناس . والأمر في قوله : { كلوا مما في الأرض } مستعمل في التوبيخ على ترك ذلك وليس للوجوب ولا للإِباحة ، إذ ليس الكفار بأهل للخطاب بفروع الشريعة فقوله : { كلوا } تمهيد لقوله بعده { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } .
وقوله : { حلالاً طيباً } تعريض بتحميقهم فيما أعنتوا به أنفسهم فحرَموها من نعم طيبة افتراء على الله ، وفيه إيماء إلى علة إباحته في الإِسلام وتعليم للمسلمين بأوصاف الأفعال التي هي مناط الحِل والتحريم .
والمقصود إبطال ما اختلقوه من منع أكل البَحِيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحامي ، وما حكى الله عنهم في سورة الأنعام من قوله : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم } [ الأنعام : 138 ] الآيات . قيل نزلت في ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حرَّموا على أنفسهم من الأنعام أي مما ذكر في سورة الأنعام .
ومِن في قوله : { مما في الأرض } للتبعيض ، فالتبعيض راجع إلى كون المأكول بعضاً من كل نوع وليس راجعاً إلى كون المأكول أنواعاً دون أنواع ، لأنه يفوت غرض الآية ، فما في الأرض عام خصصه الوصف بقوله : { حلالاً طيباً } فخرجت المحرمات الثابت تحريمها بالكتاب أو السنة .
وقوله : { حلالاً طيباً } حالان من ( ما ) الموصولة ، أولهما لبيان الحكم الشرعي والثاني لبيان علته لأن الطيب من شأنه أن تقصده النفوس للانتفاع به فإذا ثبت الطيب ثبتت الحلِّية لأن الله رفيق بعباده لم يمنعهم مما فيه نفعهم الخالص أو الراجح .
والمراد بالطيب هنا ما تستطيبه النفوس بالإدراك المستقيم السليم من الشذوذ وهي النفوس التي تشتهي الملائم الكامل أو الراجح بحيث لا يعود تناوله بضر جثماني أو روحاني وسيأتي معنى الطيب لغة عند قوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } [ المائدة : 4 ] في سورة المائدة .
وفي هذا الوصف معنى عظيم من الإيماء إلى قاعدة الحلال والحرام فلذلك قال علماؤنا : إن حكم الأشياء التي لم ينص الشرع فيها بشيء أن أصل المضار منها التحريم وأصل المنافع الحل ، وهذا بالنظر إلى ذات الشيء بقطع النظر عن عوارضه كتعلق حق الغير به الموجب تحريمه ، إذ التحريم حينئذٍ حكم للعارض لا للمعروض .
وقد فسر الطيب هنا بما يبيحه الشرع وهو بعيد لأنه يفضي إلى التكرار ، ولأنه يقتضي استعمال لفظ في معنى غير متعارف عندهم .
وقوله : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } الضمير للناس لا محالة وهم المشركون المتلبسون بالمنهي عنه دوماً ، وأما المؤمنون فحظهم منه التحذير والموعظة . واتباع الخطوات تمثيلية ، أصلها أن السائر إذا رأى آثار خطوات السائرين تبع ذلك المسلك علماً منه بأنه ما سار فيه السائر قبله إلاّ لأنه موصل للمطلوب ، فشبه المقتدي الذي لا دليل له سوى المقتدي به وهو يظن مسلكه موصلاً ، بالذي يتبع خطوات السائرين وشاعت هاته التمثيلية حتى صاروا يقولون هو يتبع خُطا فلان بمعنى يقتدي به ويمتثل له .
والخطوات بضم فسكون جمع خطوة مثل الغرفة والقبضة بضم أولهما بمعنى المخطو والمغروف والمقبوض ، فهي بمعنى مخطوة اسم لمسافة ما بين القدمين عند مشي الماشي فهو يخطوها ، وأما الخَطوة بفتح الخاء فهي المرة من مصدر الخطو وتطلق على المخطو من إطلاق المصدر على المفعول .
وقرأ الجمهور ( خطوات ) بضم فسكون على أصل جمع السلامة ، وقرأه ابن عامر وقنبل عن ابن كثير وحفصٌ عن عاصم بضم الخاء والطاء على الإتباع ، والإتباع يساوي السكون في الخفة على اللسان .
والاقتداء بالشيطان إرسال النفس على العمل بما يوسوسه لها من الخواطر الشرية ، فإن الشياطين موجودات مدركة لها اتصال بالنفوس البشرية لعله كاتصال الجاذبية بالأفلاك والمغناطيس بالحديد ، فإذا حصل التوجه من أحدهما إلى الآخر بأسباب غير معلومة حدثت في النفس خواطر سيئة ، فإن أرسل المكلف نفسه لاتباعها ولم يردعها بما له من الإرادة والعزيمة حققها في فاعله ، وإن كبحها وصدها عن ذلك غلبها . ولذلك أودع الله فينا العقل والإرادة والقدرة وكمَّل لنا ذلك بالهدى الديني عوناً وعصمة عن تلبيتها لئلا تضلنا الخواطر الشيطانية حتى نرى حسناً ما ليس بالحسن ، ولهذا جاء في الحديث « من هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة » لأنه لما هم بها فذلك حين تسلطت عليه القوة الشيطانية ولما عدل عنها فذلك حين غلب الإرادة الخيرية عليها ، ومثل هذا يقال في الخواطر الخيرية وهي الناشئة عن التوجهات الملكية ، فإذا تنازع الداعيان في نفوسنا احتجنا في التغلب إلى الاستعانة بعقولنا وآرائنا وقدرتنا ، وهُدى الله تعالى إيانا وذلك هو المعبر عنه عند الأشعري بالكسب ، وعنه يترتب الثواب والعقاب .
واللام في { الشيطان } للجنس ، ويجوز أن تكون للعهد ، ويكون المراد إبليسَ وهو أصل الشياطين وآمرهم فكل ما ينشأ من وسوسة الشياطين فهو راجع إليه لأنه الذي خطا الخطوات الأولى .
وقوله : { إنه لكم عدوٌ مبين } ، ( إنَّ ) لمجرد الاهتمام بالخبر لأن العداوة بين الشيطان والناس معلومة متقررة عند المؤمنين والمشركين وقد كانوا في الحج يرمون الجمار ويعتقدون أنهم يرجمون الشيطان ، أو تجعل ( إن ) للتأكيد بتنزيل غير المتردد في الحكم منزلة المتردد أو المنكِر لأنهم لاتباعهم الإشارات الشيطانية بمنزلة من ينكر عداوته كما قال عبدة :
إن الذين تُرونهم إخوانَكم *** يشفى غليل صدورهم أن تُصرعوا
وأياً ما كان فإن تفيد معنى التعليل والربط في مثل هذا وتغني غناء الفاء وهو شأنها بعد الأمر والنهي على ما في « دلائل الإعجاز » ومثله قول بشار
بكِّرا صَاحِبَيَّ قبلَ الهجير *** إنَّ ذاك النجاحَ في التبكير
وإنما كان عدواً لأن عنصر خلقته مخالف لعنصر خلقة الإنسان فاتصاله بالإنسان يؤثر خلاف ما يلائمه ، وقد كثر في القرآن تمثيل الشيطان في صورة العدو المتربص بنا الدوائر لإثارة داعية مخالفته في نفوسنا كي لا نغتر حين نجد الخواطر الشريرة في أنفسنا فنظنها ما نشأت فينا إلاّ وهي نافعة لنا لأنها تولدت من نفوسنا ، ولأجل هذا أيضاً صورت لنا النفس في صورة العدو في مثل هاته الأحوال .
ومعنى المبين الظاهر العداوة من أبان الذي هو بمعنى بان وليس من أبان الذي همزته للتعدية بمعنى أظهر لأن الشيطان لا يُظهر لنا العداوة بل يلبس لنا وسوسته في لباس النصيحة أو جلب الملائم ، ولذلك سماه الله وليّاً فقال : { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } [ النساء : 119 ] ، إلاّ أن الله فضحه فلم يبق مسلم تروج عليه تلبيساته حتى في حال اتِّباعه لخطواته فهو يعلم أنها وساوسه المضرة إلاّ أنه تغلبه شهوته وضعف عزيمته ورقة ديانته .