لَمَا بيَّن التوحيد ودلائلهُ وما للموحِّدين مِنَ الثواب وأتبعه بذكر الشِّرك ، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وأنَّ معصية مَنْ عَصَاه ، وكُفْر من كَفَر به ، لم تُؤَثِّر في قطع نعمه وإحسَانه إِلَيهمْ .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : هذه الآية نزلت في قومٍ من ثقيف ، وبني عامر بن صَعْصعَة ، وخُزَاعة ، وبني مُدْلجٍ ، حَرَّموا على أنفسُهم مِنَ الحَرثِ ، والبحائِرِ ، والسَّوائِب ، والوَصَائِلَ والحَامِ{[2243]} .
قوله تعالى " { مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } حَلالاً فيه خَمْسَة أوجُهٍ :
أحدها : أن يكون مفعولاً ب " كُلُوا " و " مِنْ " على هذا فيها وجهان :
أحدهما : أنْ تتعلَّق ب " كُلُوا " ويكون معناها ابتداء الغاية .
الثاني : أنْ تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من " حلالاً " [ وكانت في الأصلِ صفةً له ، فَلَمَّا قُدَّمَتْ عليه ، انتصَبَتْ حالاً ]{[2244]}ويكون معنى " مِن " التَّبْعِيضَ .
الثاني : أنْ يكون انتصابُ " حَلاَلاً " على أنَّه نعتٌ لمفعولٍ محذوف ، تقديرُهُ : شيئاً أو رِزْقاً حَلاَلاً ، ذكَرَه مَكِّيٌّ{[2245]} واستعبده ابن عطيَّة ولم يبيِّن وجه بُعْده ، والذي يظهرُ في بُعْده أَنَّ " حَلاَلاً " ليس صفةً خاصَّة بالمأْكُول بل يُوصَف به المأكُول وغيره وإذا لم تكُن الصفة خاصَّة ، لا يجوز حذف الموصول .
الثالث : أن ينتصب " حلالاً " على أنَّه حالٌ من " مَا " بمعنى : " الَّذي " ، أي : كُلُوا من الَّذي في الأرض حال كونه حلالاً .
الرابع : أن ينتصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، [ أي : أكلاً حلالاً ، ويكون مفعول " كُلُوا " محذوفاً ، و " ما في الأرض " صفةً لذلك المفعول المحذوف ]{[2246]} ، ذكره أبو البقاء{[2247]} وفيه من الرَّدِّ ما تقدِّم على مَكِّيٍّ ، ويجوز على هذا الوجه الرابع ألا يكون المفعول محذوفاً ، بل تكون " مِنْ " مزيدةً على مذهب الأخفش ، تقديره ، " كُلُوا مَا في الأَرْضِ أكْلاً حَلاَلاً " .
الخامس : أن يكون حالاً من الضَّمير العائد على " ما " قاله ابن عطيَّة ، يعني ب " الضَّمير " الضَّمير المستكنَّ في الجارِّ والمجرور ، الواقع صلة .
و " طَيِّباً " فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون صفة ل " حَلاَلا " أمَّا على القول بأنَّ " مِنْ " للابتداء ، متعلِّقةٌ ب " كُلُوا " فهو واضحٌ ؛ وأمَّا على القول بأن " مِمَّا في الأَرْضِ " حال من " حَلاَلاً " ، فقال أبُو البَقَاءِ{[2248]} - رحمه الله تعالى- : ولكن موضعها بعد الجارِّ والمجرور ، لئلاَّ يفصل الصِّفة بين الحال وذي الحال . وهذا القول ضعيفٌ ، فإنَّ الفصل بالصفة بين الحال وصاحبها ليس بممنوعٍ ؛ تقول " جَاءَنِي زَيْدٌ الطَّويلُ [ راكِباً " ، بل لو قدَّمت الحال على الصِّفة ، فقلت : " جاءَنِي زَيْدٌ راكباً الطَّوِيلُ " ]{[2249]} - كان في جوازه نظر .
الثاني : أن يكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ ، أو حالاً من المصدر المعرفة المحذوف : أي أكلاً طَيِّباً .
الثالث : أن يكون حالاً من الضَّمير في " كُلُوا " تقديره : مستطيبين - قال ابن عطيَّة .
قال أبُو حَيَّان{[2250]} : وهذا فاسدٌ في اللَّفظ أمَّا اللَّفظ ؛ فلأنَّ " الطَّيِّبَ " اسم فاعل فكان ينبغي أن تُجمع ؛ لتطابق صاحبها ؛ فيقال : طيِّبين ، وليس " طَيِّب " مصدراً ؛ فيقال : إنَّما لم يجمع لذلك ، وأمَّا المعنى ؛ فلأنَّ " طَيِّباً " مغايرٌ لمعنى مستطيبين ، لأنَّ " الطَّيِّب " من صفات المأكول ، و " المستطيب " من صفات الآكلين ، تقول : " طَابَ لِزَيْدٍ الطَّعَامُ " ولا تقول : " طَابَ زَيْدٌ الطَّعَامَ " بمعنى استطابه .
و " الحَلاَلُ " : المأذون فيه ضدُّ الحرام الممنوع منه ، حلَّ يحلُّ ، بكسر العين في المضارع ، وهو القياس ، لأنه مضاعفٌ غير متعدٍّ ، يقال : حَلاَلٌ ، وحِلٌّ ؛ كَحَرَامٍ وحِرْمٍ وهو في الأصل مصدرٌ ، ويقال : " حِلٌّ بِلٌّ " على سبيل الإتباع ؛ ك " حَسَنٌ بَسَنٌ " ، وحَلٌ بمكان كذا يَحُلُّ - بضم العين وكسرها - وقُرئ : { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } [ طه : 81 ] بالوجهين ، وأصله من " الحَلِّ " الذي هو : نقيض العقد ، ومنه : حلَّ بالمكان ، إذا نزل به ؛ لأنَّه حلَّ شدَّ الرحال للنُّزول ، وحَلَّ الدَّين إذا نزل به ، لانحلال العقدة بانقضاء المُدَّة ، وحَلَّ من إحرامه ، لأنه حَلَّ عقد الإحرام ، وحلَّت عليه العقوبة ، أي : وجبت لانحلال العقدة [ المانعة من العذاب ]{[2251]} ومن هذا : " تَحِلَّةُ اليمين " : لأن عقدة اليمين تنحلُّ به .
والطَّيِّبُ [ في اللغة : يكون بمعنى الطَّاهر ، والحلال يوصف بأنَّه طيِّبٌ ؛ قال تعالى : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ }[ المائدة : 100 ] والطَّيِّب في ]{[2252]} الأصل : هو ما يستلذُّ به ويستطاب ، ووصف به الطَّاهر ، والحلال ؛ على جهة التشبيه ؛ لأنَّ النَّجس تكرهه النَّفس ؛ فلا تستلذُّه ، والحرام غير مستلذٍّ ، لأنَّ الشرع يزجر عنه .
وفي المراد بالطَّيِّب في الآية وجهان :
الأول : أنه المستلذُّ ؛ لأنا لو حملناه على الحلال ، لزم التكرار ؛ فعلى هذا يكون إنما يكون طيِّباً ، إذا كان من جنس ما يشتهى ؛ لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه ، عاد حراماً ، وإن كان يبعد وقوع ذلك من العاقل إلاّ عند شبهة .
والثاني : أن يكون المراد ما يكون جنسه حلالاً ، وقوله : " طَيِّباً " المراد منه : ألاَّ يكون متعلِّقاً به حقُّ الغير ؛ فإنَّ أكل الحرام ، وإن استطابه الآكل ، فمن حيث يؤدِّي إلى العقاب : يصير مضرَّةً ، ولا يكون مستطاباً ؛ كما قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }[ النساء : 10 ] .
قوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } : قرأ{[2253]} ابنُ عامِرٍ ، والكسَائيُّ ، وقُنْبُلٌ ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ ، ويَعْقُوبُ : " خُطُوَاتِ " بضم الخاء ، والطاء ، وباقي السَّبْعة بسكون الطاء .
أمّا من ضمَّ العين ؛ فلأنَّ الواحدة " خُطْوَة " فإذا جمعت ، حرِّكت العين ؛ للجمع ، كما فعلت في الأسماء التي على هذا الوزن ؛ نحو : غُرْفَةٍ وغُرُفاتٍ ، وتحريك العين على هذا الجمع ؛ للفصل بين الاسم والصِّفة ؛ لأن كلَّ ما كان اسماً ، جمعته بتحريك العين ؛ نحو : " تَمْرَة وتَمَرَات ، وغَرْفَةٍ وغَرَفَاتٍ ، وشَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ " وما كان نعتاً ، جمع بسكون العين ؛ نحو : " ضَخْمَةٍ وَضَخْمَاتٍ ، وعَبْلَةٍ وعَبْلاَتٍ " ، والخُطْوَة : من الأسماء ، لا من الصفات ، فتجمع بتحريك العين .
وقرأ أبو السَّمَّال{[2254]} " خُطَوَات " بفتحها ، ونقل ابن عطيَّة ، وغيره عنه : أنه قرأ : " خَطَوَات " ، بفتح الخاء ، والطاء ، وقرأ عليٌّ{[2255]} وقتادة ، والأعمش بضمِّها ، والهمز .
فأما قراءة{[2256]} الجمهور ، والأولى من قراءتي أبي السَّمَّال ، فلأن " فُعْلَة " الساكنة العين ، السَّالِمَتَهَا ، إذا كان اسماً ، جاز في جمعها بالألف والتاء ثلاثة أوجهٍ ، وهي لغاتٌ مسموعةً عن العرب : السُّكون ، وهو الأصل ، والإتباع ، والفتح في العين ، تخفيفاً .
وأما قراءة أبي السَّمَّال التي نقلها ابنُ عطيَّة ، فهي جمع " خَطْوَة " بفتح الخاء ، والفرق بين الخطوة بالضَّمَّ ، والفتح : أنَّ المفتوح : مصدر دالًّ على المرَّة ، من : خَطَا يَخْطُوا ، إذا مشى ، والمضموم : اسمٌ لما بين القدمين ؛ كأنَّه اسم للمسافة ؛ كالغرفة اسم للشيء المغترف .
وقيل : إنَّهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكره أبُو البَقَاءِ{[2257]} .
وأمَّا قراءةُ عليٍّ ، ففيها تأويلان :
أحدهما - وبه قال الأَخْفَشُ - : أنَّ الهمزة أصلٌ ، وأنَّه من " الخَطَأ " ، و " خُطُؤَات " جمع " خِطْأَة " إن سمع ، وإلاَّ فتقديراً ، وتفسير مجاهد إياه ب " الخَطَايَا " يؤيِّد هذا ، ولكن يحتملُ أن يكون مجاهد فسَّره بالمرادف .
والثاني : أنه قلب الهمزة عن الواو ؛ لأنَّها جاورت الضمّة قبلها ؛ فكأنها عليها ؛ لأنَّ حركة الحرف بين يديه على الصَّحيح ، لا عليه .
قال ابن السَّكِّيتِ - فيما رواه عن اللِّحْيَانِيِّ - الخَطْوَة والخُطْوَة بمعنى واحدٍ ، وحكى عن الفرَّاء الخُطْوَة ما بين القدمين ؛ كما يقال : حَثَوْتُ حُثْوَةً ، والحُثْوَة : اسمٌ لما تَحَثَّيْتَ ، وكذلك غَرَفْتُ غُرْفَةً ، والغُرْفَة : هو الشيء المُغْتَرَفُ بالكَفِّ ، فيكون المعنى : لا تتَّبعوا سبيله ، ولا تسلكوا طريقه ؛ لأنَّ الخُطْوَة اسم مكان{[2258]} .
قال الزَّجَّاج وابن قُتَيْبَة : خُطُوَاتُ الشَّيْطان طُرُقُهُ ، وإن جعلت الخطوة مصدراً ، فالتقدير : لا تَأَتَمُّوا به ، ولا تَتَّبِعُوا أَثَرَهُ ، والمعنى : أن الله تعالى ، زجر المكلَّف عن تخطِّي الحلال إلى الشُّبه ؛ كما زجره عن تخطِّيه إلى الحرام ، وبيَّن العلَّة في هذا التحذير ، وهو كونه عدوّاً مبيناً ، أي : متظاهراً بالعداوة ؛ وذلك لأنَّ الشيطان التزم أموراً سبعةً في العداوة :
أربعة منها في قوله تعالى : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } [ النساء : 119 ] .
وثلاثة منها في قوله :{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 16 - 17 ] فلمَّا التزم هذه الأمور ، كان عدواً متظاهراً بالعداوة ، وقد أظهر عداوته بإبائه السُّجود لآدم ، وغروره إيّاه ؛ حتَّى أخرجه من الجنَّة .
قوله : " إِنَّهُ لَكُمْ " قال أبُو البَقَاءِ{[2259]} : إنَّما كسر الهمزة ؛ لأنَّه أراد الإعلام بحاله ، وهو أبلغ من الفتح ؛ لأنه إذا فتح الهمزة ، صار التقدير : لا تتَّبعوه ؛ لأنَّه عدوٌّ لكم ، واتباعه ممنوعٌ ، وإن لم يكن عدوّاً لنا ، مثله : [ منهوك الرجز ]
889أ - لَبَّيكَ ، إنَّ الحَمْدَ لَكْ *** . . .
كسر الهمزة أجود ؛ لدلالة الكسر على استحقاقه الحمد في كلِّ حال ، وكذلك التلبية . انتهى .
يعني أن الكسر استئنافٌ محض فهو إخبار بذلك ، وهذا الذي قاله في وجه الكسر لا يتعيَّن ؛ لأنَّه يجوز أن يراد التعليل مع كسرة الهمزة ؛ فإنَّهم نصُّوا على أنَّ " إنَّ " المكسورة تفيد العلَّة أيضاً ، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها ؛ كما تقدم آنفاً ، فينبغي أن يقال : قراءة الكسر أولى ؛ لأنَّها محتملة للإخبار المحض بحاله ، وللعلِّيَّة ؛ وممَّا يدلُّ على أنَّ المكسورة تفيد العلِّيَّة قوله - عليه السلام - في الرَّوثة " إنَّها رجسٌ " وقوله في الهرَّة :
" إنَّها لَيْسَتْ بِنَجِسٍ ؛ إنَّها مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ {[2260]} "
وقوله : " لاَ تُنْكَحُ المَرأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا ؛ إِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذلك ، قَطَّعْتُمْ أرْحَامَكُمْ {[2261]} " .
وأما المفتوحة : فهي نصٌّ في العلِّيَّة ، لأنَّ الكلام على تقدير لام العلَّة .