البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٌ} (168)

الحلال : مقابل الحرام ومقابل المحرم .

يقال شيء حلال : أي سائغ الانتفاع به ، وشيء حرام : ممنوع منه ، ورجل حلال : أي ليس بمحرم .

قيل : وسمي حلالاً لانحلال عقد المنع منه ، والفعل منه حتى يحل ، بكسر الحاء في المضارع ، على قياس الفعل المضاعف اللازم .

ويقال : هذا حل ، أي حلال ، ويقال : حل بل على سبيل التوكيد ، وحل بالمكان : نزل به ، ومضارعه جاء بضم الحاء وكسرها ، وحل عليه الدين : حان وقت أدائه .

الخطوة ، بضم الخاء : ما بين قدمي الماشي من الأرض ، والخطوة ، بفتحها : المرة من المصدر .

يقال : خطا يخط خطواً : مشى .

ويقال : هو واسع الخطو .

فالخطوة بالضم ، عبارة عن المسافة التي يخطو فيها ، كالغرفة والقبضة ، وهما عبارتان عن الشيء المعروف والمقبوض ، وفي جمعها بالألف والياء لغي ثلاث : إسكان الطاء كحالها في المفرد ، وهي لغة تميم وناس من قيس ، وضمة الطاء اتباعاً لضمة الخاء ، وفتح الطاء .

ويجمع تكسيراً على خطى ، وهو قياس مطرد في فعلة الاسم .

{ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين } : هذا ثاني نداء وقع في سورة البقرة بقوله : يا أيها الناس ، ولفظه عام .

قال الحسن : نزلت في كل من حرم على نفسه شيئاً لم يحرمه الله عليه .

وروى الكلبي ومقاتل وغيرهما : أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب ، قاله النقاش .

وقيل : في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة .

قيل : وبني مدلج ، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام ، وحرموا البحيرة والسوائب والوصيلة والحام .

فإن صح هذا ، كان السبب خاصاً واللفظ عاماً ، والعبرة بعموم اللفظ لا يخصوص السبب .

ومناسبة هذا لما قبله ، أنه لما بين التوحيد ودلائله ، وما للتائبين والعاصين ، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الكافر والمؤمن ، ليدل أن الكفر لا يؤثر في قطع الأنعام .

وقال المروزي : لما حذر المؤمنين من حال من يصير عمله عليه حسرة ، أمرهم بأكل الحلال ، لأن مدار الطاعة عليه .

كلوا : أمر إباحة وتسويغ ، لأنه تعالى هو الموجد للأشياء ، فهو المتصرف فيها على ما يريد .

مما في الأرض ، من : تبعيضية ، وما : موصولة ، ومن : في موضع المفعول ، نحو : أكلت من الرغيف ، وحلالاً : حال من الضمير المتسقر في الصلة المنتقل من العامل فيها إليها .

وقال مكي بن أبي طالب : حلالاً : نعت لمفعول محذوف تقديره شيئاً حلالاً ، قال ابن عطية : وهذا بعيد ولم يبين وجه بعده ، وبعده أنه مما حذف الموصوف ، وصفته غير خاصة ، لأن الحلال يتصف به المأكول وغير المأكول .

وإذا كانت الصفة هكذا ، لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه .

وأجاز قوم أن ينتصب حلالاً على أنه مفعول بكلوا ، وبه ابتدأ الزمخشري .

ويكون على هذا الوجه من لابتداء الغاية متعلقة بكلوا ، أو متعلقة بمحذوف ، فيكون حالاً ، والتقدير : كلوا حلالاً مما في الأرض .

فلما قدمت الصفة صارت حالاً ، فتعلقت بمحذوف ، كما كانت صفة تتعلق بمحذوف .

وقال ابن عطية : مقصد الكلام لا يعطي أن تكون حلالاً مفعولاً بكلوا ، تأمل . انتهى .

طيباً : انتصب صفة لقوله : حلالاً ، إما مؤكدة لأن معناه ومعنى حلالاً واحد ، وهو قول مالك وغيره ، وإما مخصصة لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ ، وهو قول الشافعي وغيره .

ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث .

وقيل : انتصب طيباً على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي أكلاً طيباً ، وهو خلاف الظاهر .

وقال ابن عطية : ويصح أن يكون طيباً حالاً من الضمير في كلوا تقديره : مستطيبين ، وهذا فاسد في اللفظ والمعنى .

أما اللفظ فلأن طيباً اسم فاعل وليس بمطابق للضمير ، لأن الضمير جمع ، وطيب مفرد ، وليس طيب بمصدر ، فيقال : لا يلزم المطابقة .

وأما المعنى : فلأن طيباً مغاير لمعنى مستطيبين ، لأن الطيب من صفات المأكول ، والمستطيب من صفات الآكل .

تقول : طاب لزيد الطعام ، ولا تقول : طاب زيد الطعام ، في معنى استطابه .

وقال الزمخشري في قوله طيباً : طاهراً من كل شبهة .

وقال السجاوندي : حلالاً مطلق الشرع ، طيباً مستلذ الطبع .

وقال في المنتخب ما ملخصه : الحلال : الذي انحلت عنه عقدة الخطر ، إما لكونه حراماً لجنسه كالميتة ، وإما لا لجنسه كملك الغير ، إذ لم يأذن في أكله .

والطيب لغة الطاهر ، والحلال يوصف بأنه طيب ، كما أن الحرام يوصف بأنه خبيث ، والأصل في الطيب ما يستلذ ، ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه ، لأن النجس تكرهه النفس ، والحرام لا يستلذ ، لأن الشرع منع منه . انتهى .

والثابت في اللغة : أن الطيب هو الطاهر من الدنس .

قال :

والطيبون معاقد الأزر***

وقال آخر

ولي الأصل الذي في مثله***يصلح الآبر زرع المؤتبر

طيبوا الباءة سهل ولهم*** سبل إن شئت في وحش وعر

وقال الحسن : الحلال الطيب : هو ما لا يُسأل عنه يوم القيامة .

وقال ابن عباس : الحلال الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا وبال في الآخرة .

وقيل : الحلال ما يجوزه المفتي ، والطيب ما يشهد له القلب بالحل .

وقد استدل من قال بأن الأصل في الأشياء الحظر بهذه الآية ، لأن الأشياء ملك الله تعالى ، فلا بد من إذنه فيما يتناول منها ، وما عدا ما لم يأذن فيه يبقى على الحظر .

وظاهر الآية أن ما جمع الوصفين الحل والطيب مما في الأرض ، فهو مأذون في أكله .

أما تملكه والتصدق به ، أو ادخاره ، أو سائر الانتفاعات به غير الأكل ، فلا تدل عليه الآية .

فإما أن يجوز ذلك بنص آخر ، أو إجماع عند من لا يرى القياس ، أو بالقياس على الأكل عند من يقول بالقياس .

{ ولا تتبعوا خطوات الشيطان } وقرأ ابن عامر والكسائي وقنبل وحفص وعباس ، عن أبي عمرو والبرجمي ، عن أبي بكر : بضم الخاء والطاء وبالواو .

وقرأ باقي السبعة : بضم الخاء وإسكان الطاء وبالواو .

وقرأ أبو السمال : خطوات ، بضم الخاء وفتح الطاء وبالواو .

وقد تقدم أن هذه لغى ثلاث في جمع خطوة .

ونقل ابن عطية والسجاوندي أن أبا السمال قرأ : خطوات ، بفتح الخاء والطاء وبالواو ، جمع خطوة ، وهي المرة من الخطو .

وقرأ علي وقتادة والأعمش وسلام : خطؤات ، بضم الخاء والطاء والهمزة ، واختلف في توجيه هذه القراءة فقيل : الهمزة أصل ، وهو من الخطأ جمع خطأة ، إن كان سمع ، وإلا فتقديراً .

وممن قال إنه من الخطأ أبو الحسن الأخفش ، وفسره مجاهد خطاياه ، وتفسيره يحتمل أن يكون فسر بالمرادف ، أو فسر بالمعنى .

وقيل : هو جمع خطوة ، لكنه توهم ضمة الطاء أنها على الواو فهمز ، لأن مثل ذلك قد يهمز .

قال معناه الزمخشري : والنهي عن اتباع خطوات الشيطان كناية عن ترك الاقتداء به ، وعن اتباع ما سنّ من المعاصي .

يقال : اتبع زيد خطوات عمرو ووطىء على عقبيه ، إذ سلك مسلكه في أحواله .

قال ابن عباس : خطواته أعماله .

وقال مجاهد : خطاياه .

وقال السدي : طاعته .

وقال أبو مجلز : النذور في المعاصي .

وقيل : ما ينقلهم إليه من معصية إلى معصية ، حتى يستوعبوا جميع المعاصي ، مأخوذ من خطو القدم من مكان إلى مكان .

وقال الزجاج وابن قتيبة : طرقه .

وقال أبو عبيدة : محقرات الذنوب .

وقال المؤرّج آثاره وقال عطاء : زلاته ، وهذه أقوال متقاربة المعنى صدرت من قائلها على سبيل التمثيل .

والمعنى بها كلها النهي عن معصية الله ، وكأنه تعالى لما أباح لهم الأكل من الحلال الطيب ، نهاهم عن معاصي الله وعن التخطي إلى أكل الحرام ، لأن الشيطان يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة ، فيزين بذلك ما لا يحل ، فزجر الله عن ذلك .

والشيطان هنا إبليس ، والنهي عنا عن اتباع كل فرد فرد من المعاصي ، لا أن ذلك يفيد الجمع ، فلا يكون نهياً عن المفرد .

{ إنه لكم عدوّ مبين } : تعليل لسبب هذا التحذير من اتباع الشيطان ، لأن من ظهرت عداوته واستبانت ، فهو جدير بأن لا يتبع في شيء وأن يفرّ منه ، فإنه ليس له فكر إلا في إرداء عدوه .

/خ176