الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٌ} (168)

قولُه تعالى : { مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } : " حلالاً " فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَن يكونَ مفعولاً ب " كُلوا " ، و " مِنْ " على هذا فيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ تتعلَّق بكُلوا ، ويكونُ معناها ابتداءَ الغايةِ . والثاني : أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من " حلالاً " وكانت في الأصلِ صفةً له فلمّا قُدِّمت عليه انتصَبَت حالاً ، ويكونُ معنى " مِنْ " التبعيض . الثاني : أن يكونَ انتصابُ " حلالاً " على أنه نعت لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديرُه : شيئاً أو زرقاً حلالاً ذكرَه مكي ، واستبعدَه ابنُ عطية ، ولم يُبَيِّنْ وجهَ بُعْدِهِ ، والذي يَظْهَرُ في بُعْدِه أنَّ " حلالاً " ليس صفةً خاصةً بالمأكولِ ، بل يُوصَفُ به المأكولُ وغيرُه ، وإذا لم تكن الصفةُ خاصةً لا يجُوزُ حَذْفُ الموصوفِ . الثالثُ : أَنْ ينتصِبَ " حلالاً " على أنه حالٌ من " ما " بمعنى الذي ، أي : كُلوا من الذي في الأرض حال كَونِه حلالاً . الرابع : أن ينتصِبَ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : أكلاً حلالاً ، ويكون مفعولُ " كُلوا " محذوفاً ، و " ما في الأرض " صفةٌ لذلك المفعولِ المحذوفِ ، ذكره أبو البقاء ، وفيه من الردِّ ما تقدَّم على مكي ، ويجوزُ على هذا الوجهِ الرابع ألاَّ يكونَ المفعولُ محذوفاً بل تكون " مِنْ " مزيدةً على مذهب الأخفش تقديرُه : كُلوا ما في الأرض أكلاً حلالاً . الخامس : أنْ يكونَ حالاً من الضمير العائِد على " ما " قاله ابنُ عطية ، يعني بالضمير الضميرَ المستكنَّ في الجارِّ والمجرورِ الواقعِ صلةً .

و " طيباً " فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أن يكونَ صفةً لحلالاً ، أمَّا على القول بأنَّ " مِنْ " للابتداءِ متعلِّقة ب " كُلوا " فهو واضحُ ، وأمّا على القولِ بأنّ " مِما في الأرض " حالٌ من " حلالاً " ، فقال أبو البقاء : " ولكنَّ موضعَها بعد الجارِّ والمجرور ، لئلا يُفْصَلَ بالصفةِ بين الحالِ وذي الحالِ " وهذا الذي قاله ليس بشيء فإنَّ الفصلَ بالصفةِ بين الحال وصاحِبها ليس بممنوع ، تقول : " جاءني زيدٌ الطويلُ راكباً " بل لو قَدَّمْتَ الحالَ على الصفةِ فقلتَ : " جاءني زيدٌ راكباً الطويلُ " كان في جوازه نظرٌ . الثاني : أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أو حالاً من المصدرِ المَعْرفة المحذوفِ أي : أكلاً طيباً . الثالث : أن يكونَ حالاً من الضميرِ في " كُلوا " تقديرُه : مستطيبين ، قاله ابنُ عطية ، قال الشيخُ : " وهذا فاسدٌ في اللفظ/ والمعنى ، أمّا اللفظُ فلأنَّ " الطيِّب " اسمُ فاعل فكان ينبغي أن تُجْمَعَ لتطابق صاحبَها فيقال : طيبين ، وليس " طيب " مصدراً فيقال : إنما لم يُجْمَع لذلك .

وأما المعنى فإنَّ " طيباً " مغايرٌ لمعنى " مستطيبين " لأنَّ الطِّيب من صفاتِ المَأْكولِ والمستطيبَ من صفاتِ الآكلينَ ، تقول : طاب لزيدٍ الطعامُ ، ولا تقولُ : " طابَ زيدٌ الطعام " بمعنى استطابه " .

والحَلالُ : المأذونُ فيه ، ضدُّ الحرام الممنوع منه . [ يُقال : ] حَلَّ يَحِلُّ بكسرِ العين في المضارعِ ، وهو القياسُ لأنه مضاعَفٌ غيرُ متعدٍّ ، ويقال : حَلال وحِلُّ ، كحرام وحَرَم ، وهو في الأصل مصدرٌ ، ويقالُ : " حلٌِ بِلٌّ " على سبيلِ الإِتباع كحَسَنٌ بَسَنٌ . وَحَلَّ بمكان كذا يحِلُّ بضمِّ العَيْنِ وكسرِها ، وقرىء ، { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } [ طه : 81 ] بالوجهين .

قوله : { خُطُواتِ } قرأ ابنُ عامر والكسائي وقنبل وحَفص : خُطُوات بضم الخاء والطاء ، وباقي السبعة بسكون الطاءِ ، وقرأ أبو السَّمَّال " خُطَوات " بفتحها ، ونقل ابنُ عطية وغيرُه عنه أنه قرأ " خَطَوات " بفتح الخاء والطاء ، وقرأَ عليّ وقتادة والأعمش بضمِّها والهمز .

فأمّا قراءةُ الجمهورِ والأولى من قراءَتَيْ أبي السَّمَّال فلأنَّ " فَعْلَة " الساكنةَ العين السالمتها إذا كانت اسماً جاز في جَمْعِها بالألف والتاءِ ثلاثةُ أوجهٍ - وهي لغاتٌ مسموعةٌ عن العرب - : السكونُ وهو الأصلُ ، والإِتباع ، والفتحُ في العَيْنِ تخفيفاً . وأمَّا قراءةُ أَبي السَّمَّال التي نَقَلَها ابنُ عطية فهي جَمْعُ خَطْوة بفتح الخاء ، والفرقُ بين الخطوة بالضم والفتح : أنَّ المفتوحَ مصدرٌ ، دالةٌ على المَرَّة من خَطَا يَخْطُوا إذا مَشَى ، والمضمُوم اسمٌ لِما بين القَدَمَيْن كأنه اسمٌ للمسافةِ ، كالغُرْفَة اسمٌ للشيءِ المُغْتَرَف ، وقيل : إنهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكرَه أبو البقاء .

وأمَّا قراءةُ عليّ ففيها تأويلان ، أحدُهما : - وبه قال الأخفش - أنَّ الهمزةَ أصلُ وأنه من الخطأ ، و " خُطُؤات " جمع " خِطْأَة " إِنْ سُمِعَ ، وإلاَّ فتقديراً ، وتفسيرُ مجاهدٍ إياه بالخطايا يؤيِّد هذا ، ولكنْ يُحْتَمَل أَنْ يكونَ مجاهِدٌ فَسَّره بالمرادفِ . والثاني : أنه قَلَبَ الهمزةَ عن الواوِ لأنَّها جاورت الضمةَ قبلَها فكأنَّها عليها ، لأنَّ حركةَ الحرف بين يديه على الصحيح لا عليه .

قوله : { إِنَّهُ لَكُمْ } قال أبو البقاء : " إنما كسر الهمزة لأنه أراد الإِعلامَ بحالِه ، وهو أبلغُ من الفتح ، لأنه إذا فَتَح الهمزةَ صار التقديرُ : لا تتَّبِعوه لأنه عدوٌّ لكم ، واتِّباعُهُ ممنوعٌ وإن لم يكن عدواً لنا ، ومثلُه :

لبَّيْكَ إنَّ الحَمْدَ لك *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كَسْرُ الهمزةِ أجودُ لدلالةِ الكسرِ على استحقاقه الحمدَ في كلِّ حالٍ وكذلك التلبيةُ " انتهى . يعني أن الكسرَ استئنافٌ فهو بعضُ إخبارٍ بذلك ، وهذا الذي قاله في وجهِ الكسرِ لا يتعيَّنُ ، لأنه يجوزُ أن يُرادَ التعليل مع كسرِ الهمزةِ فإنهم نَصُّوا على أنَّ " إنَّ " المسكروةَ تفيدُ العلةَ أيضاً ، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها فينبغي أن يقالَ : قراءةُ الكسرِ أَوْلَى لأنها محتملةٌ للإِخبارِ المَحْضِ بحالِهِ وللعلِّيَّة ، وأمّا المفتوحةُ فهي نصٌّ في العلِّيَّة ، لأنَّ الكلامَ على تقديرِ لامِ العلةِ .