معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱعۡبُدُونِ} (56)

قوله تعالى : { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } قال مقاتل والكلبي : نزلت في ضعفاء مسلمي مكة ، يقول : إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة ، ( إن أرضي ) يعني المدينة واسعة آمنة . قال مجاهد : إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها . وقال سعيد بن جبير : إذا عمل في الأرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة . وقال عطاء : إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة . وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة . وقيل : نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة ، وقالوا : نخشى ، إن هاجرنا ، من الجوع وضيق المعيشة ، فأنزل الله هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج . وقال مطرف بن عبد الله : أرضي واسعة أي : رزقي لكم واسع فاخرجوا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱعۡبُدُونِ} (56)

وبعد أن بين - سبحانه - سوء عاقبة المكذبين ، الذين استعجلوا العذاب لجهلهم وعنادهم ، أتبع ذلك بتوجيه نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بالثبات على الحق ، فقال - تعالى - : { الذين عَاهَدْتَّ . . . وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } .

قال الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - : { ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } : هذا أمر من الله - تعالى - لعباده المؤمنين ، بالهجرة من البلد الذى لا يقدرون فيه على إقامة الدين ، إلى أرض الله الواسعة ، حيث يمكن إقامة الدين ، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم . .

روى الإِمام أحمد عن أبى يحيى مولى الزبير بن العوام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، فحيثما أصبت خيراًً فأقم " .

ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها ، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ، ليأمنوا على دينهم هناك . . . ثم بعد ذلك ، هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنورة . .

وفى ندائهم بقوله : { ياعبادي } وفى وصفهم بالإِيمان ، تكريم وشتريف لهم ، حيث أضافهم - سبحانه - إلى ذاته ، ونعتم المحبب إلى قلوبهم .

وقوله : { إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } تحريض لهم على الهجرة من الأرض التى لا يتمكنون فيها من إقامة شعائر دينهم ، فكانه - سبحانه - يقول لهم : ليس هناك ما يجبركم على الإقامة فى تلك الأرض التى لا قدرة لكم فيها على إظهار دينكم ، بل أخرجوا منها فإن أرضى واسعة ، ومن خرج من أجل كلمة الله ، رزقه الله - تعالى - من حيث لا يحتسب .

ومن المفسرين الذين أجادوا فى شرح هذا المعنى ، صاحب الكشاف - رحمه الله - فقد قال : ومعنى الآية : أن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة فى بلد هو فيه ، ولم يتمش له أمر دينه كما يحب ، فليهاجر عنه إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلباً ، وأصح دينا ، وأكثر عبادة . .

ولعمرى إن البقاع تتفاوت فى ذلك التفاوت الكير ، ولقد جربنا وجرب أولونا ، فلم نجد فيما درنا وداروا : أعون على قهر النفس ، وعصيان الشهوة ، وأجمع للقلب المتلفت ، وأضم للهم المنتشر ، وأحث على القناعة ، وأطرد للشيطان ، وأبعد عن الفتن . . من سكنى حرم الله ، وجوار بيت الله ، فلله الحمد على سهل من ذلك وقرب . .

والفاء فى قوله - تعالى - { فَإِيَّايَ فاعبدون } بمعنى الشرط ، وإياى منصوب بفعل مضمر ، قد استغنى عنه بما يشبه . أى : فاعبدوا إياى فاعبدون .

والمعنى : إن ضاق بكم مكان ، فإياى فاعبدوا ، لأن أرضى واسعة ، ولن تضيق بكم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱعۡبُدُونِ} (56)

46

ويدع الجاحدين المكذبين المستهترين في مشهد العذاب يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ليلتفت إلى المؤمنين ، الذين يفتنهم أولئك المكذبون عن دينهم ، ويمنعونهم من عبادة ربهم . . يلتفت إليهم يدعوهم إلى الفرار بدينهم ، والنجاة بعقيدتهم . في نداء حبيب وفي رعاية سابغة ، وفي أسلوب يمس كل أوتار القلوب :

( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ، فإياي فاعبدون . كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون . والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، نعم أجر العاملين ، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون . وكأي من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ، وهو السميع العليم . . )

إن خالق هذه القلوب ، الخبير بمداخلها ، العليم بخفاياها ، العارف بما يهجس فيها ، وما يستكن في حناياها . . إن خالق هذه القلوب ليناديها هذا النداء الحبيب : يا عبادي الذين آمنوا : يناديها هكذا وهو يدعوها إلى الهجرة بدينها ، لتحس منذ اللحظة الأولى بحقيقتها . بنسبتها إلى ربها وإضافتها إلى مولاها : ( يا عبادي ) . .

هذه هي اللمسة الأولى . واللمسة الثانية : ( إن أرضي واسعة ) . .

أنتم عبادي . وهذه أرضي . وهي واسعة . فسيحة تسعكم . فما الذي يمسككم في مقامكم الضيق ، الذي تفتنون فيه عن دينكم ، ولا تملكون أن تعبدوا الله مولاكم ? غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة ، ناجين بدينكم ، أحرارا في عبادتكم ( فإياي فاعبدون ) .

إن هاجس الأسى لمفارقة الوطن هو الهاجس الأول الذي يتحرك في النفس التي تدعى للهجرة . ومن هنا يمس قلوبهم بهاتين اللمستين : بالنداء الحبيب القريب : ( يا عبادي )وبالسعة في الأرض : ( إن أرضي واسعة )وما دامت كلها أرض الله ، فأحب بقعة منها إذن هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ أَرۡضِي وَٰسِعَةٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱعۡبُدُونِ} (56)

هذه الآيات نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة ، فأخبرهم تعالى بسعة أرضه وأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب ، بل الصواب أن تلتمس عبادة الله في أرضه ، وقال ابن جبير وعطاء ومجاهد : إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق ، وقاله مالك ، وقال مطرف بن الشخير{[9270]} قوله { إن أرضي واسعة } عدة بسعة الرزق في جميع الأرض ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «يا عباديَ » بفتح الياء ، وقرأ ابن عامر وحده «إن أرضيَ » بفتح الياء أيضاً ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بسكونها ، وكذلك قرأ نافع وعاصم «أرضي » ساكنة ، وقوله تعالى : { فإياي } منصوب بفعل مقدر يدل عليه الظاهر تقديره { فإياي } اعبدوا { فاعبدون }{[9271]} على الاهتمام أيضاً في التقديم .


[9270]:مطرف بن عبد الله بن الشخير، العامري، الحرشي، أبو عبد الله البصري، قال عنه الحافظ بن حجر في التقريب: ثقة عابد فاضل من الثانية، مات سنة خمس وسبعين.
[9271]:هو من باب الاشتغال ، وعلى ذلك فالتقدير: فاعبدوا إياي فاعبدون.