قوله تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } أي : عظم عليك ، وشق ، أن أعرضوا عن الإيمان بك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص ، وكانوا إذ سألوا آية أحب أن يريهم الله تعالى ذلك طمعاً في إيمانهم .
قوله تعالى : { فإن استطعت أن تبتغي نفقاً } ، تطلب وتتخذ نفقاً سرباً .
قوله تعالى : { في الأرض } ، ومنه نافقاء اليربوع ، وهو أحد جحريه ، فتذهب فيه .
قوله تعالى : { أو سلماً } ، أي : درجاً ومصعداً .
قوله تعالى : { في السماء } ، فتصعد فيه .
قوله تعالى : { فتأتيهم بآية } ، فافعل .
قوله تعالى : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } ، فآمنوا كلهم .
قوله تعالى : { فلا تكونن من الجاهلين } ، أي : بهذا الحرف ، وهو قوله : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } ، وإن من يكفر لسابق علم الله فيه .
ثم بين - سبحانه - أنه لا سبيل إلى إيمان هؤلاء الجاحدين إلا بمشيئة الله وإرادته فقال { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } .
كبر عليك : أى شق وعظم عليك . والنفق : السرب النافذ فى الأرض الذى يخلص إلى مكان .
والمعنى : وإن كان - يا محمد - قد شق عليك إعراض قومك عن الإيمان وظننت أن إتيانهم بما اقترحوه من آيات يكون سبباً فى إيمانهم ، فإن استطعت أن تطلب مسلكا عميقاً فى جوف الأرض ، أو مرقاة ترتقى بها إلى السماء لتأتيهم بما اقترحوا من مطالب فافعل فإن ذلك لن يفيد شيئاً لأن هؤلاء المشركين لا ينقصهم الدليل الدال على صدقك ، ولكنهم يعرضون عن دعوتك عناداً وجحوداً .
ثم قال - تعالى - { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } .
أى : لو شاء الله جمعهم على ما جئت به من الهدى والرشاد لفعل ، بأن يوفقهم إلى الإيمان فيؤمنوا ، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنهم بسوء اختيارهم آثروا الحياة الدنيا ، فلا تكونن من الجاهلين بحكمة الله فى خلقه ، وبسننه التى اقتضاها علمه .
ثم يبلغ الجد الصارم مداه ، في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله [ ص ] من الرغبة البشرية ، المشتاقة إلى هداية قومه ، المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون . وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين ، والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق . وهي رغبة بشرية طبيعية . ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها ، ودور الناس أجمعين ، تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم :
( وإن كان كبر عليك إعراضهم ، فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض ، أو سلما في السماء ، فتأتيهم بآية ! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله ، ثم إليه يرجعون ) . .
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة . . وما يملك الإنسان إن يدرك حقيقة هذا الأمر ، إلا حين يستحضر في كيانه كله : أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم . . النبي الصابر من أولي العزم من الرسل . . الذي لقي ما لقي من قومه صابرا محتسبا ، لم يدع عليهم دعوة نوح - عليه السلام - وقد لقي منهم سنوات طويلة ، ما يذهب بحلم الحليم !
. . . تلك سنتنا - يا محمد - فإن كان قد كبر عليك إعراضهم ، وشق عليك تكذيبهم ، وكنت ترغب في إتيانهم بآية . . إذن . . فإن استطعت فابتغ لك نفقا في الأرض أو سلما في السماء ، فأتهم بآية !
. . . إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية . فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول . . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى : إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى - كالملائكة - وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه . وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعا . وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها .
ولكنه سبحانه - لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله - خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان ، لوظيفة معينة ، تقتضي - في تدبيره العلوي الشامل - أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة . من بينها التنوع في الاستعدادات ، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات . في حدود من القدرة على الاتجاه ، بالقدر الذي يكون عدلا معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال . .
لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده ، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية ، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف . . فأعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه
( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى . فلا تكونن من الجاهلين ) .
يا لهول الكلمة ! ويا لحسم التوجيه ! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه . .
وقوله تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } الآية ، آية فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر والمضي لأمر الله تعالى ، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء فدونك وشأنك به ، أي إنك لا تقدر على شيء من هذا ، ولا بد لك من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله تعالى للناظرين المتأملين ، إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى ، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدي بالنظر فيه قوم ويضل آخرون ، إذ خلقهم على الفطرة وهدى السبيل وسبقت رحمته غضبه ، وله ذلك كله بحق ملكه { فلا تكونن من الجاهلين } في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أسلوب معنى الآية ، واسم كان يصح أن يكون الأمر والشأن و { كبر إعراضهم } خبرها ، ويصح أن يكون { إعراضهم } هو اسم كان ويقدر في { كبر } ضمير وتكون { كبر } في موضع الخبر ، والأول من الوجهين أقيس ، والنفق : السرب في الأرض ومنه نافقاء اليربوع{[4900]} ، والسلم :الشيء الذي يصعد عليه ويرتقى ، ويمكن أن يشتق اسمه من السلامة لأنه سببها وجمعه سلاليم ، ومنه قول الشاعر [ ابن مقبل } : [ البسيط ]
لا يَحْزُنُ المَرْء أحْجاء البلادِ ولا . . . تُبْنَى له في السماواتِ السَّلاليمُ{[4901]}
و { تأتيهم بآية } أي بعلامة ، ويريد إما في فعلك ذلك ، أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض أو ارتقائك في السماء ، وإما أن { تأتيهم بالآية } من احدى الجهتين ، وحذف جواب الشرط قبل في قوله { إن استطعت } إيجاز لفهم السامع به ، تقديره فافعل أو فدونك كما تقدم ، و { لجمعهم } يحتمل إما بأن يخلقهم مؤمنين ، وإما بأن يكسبهم الإيمان بعد كفرهم بأن يشرح صدورهم ، و[ الهدى ] : الإرشاد ، وهذه الآية ترد على القدرية المفوضة الذين يقولون إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر ، وإن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق لله فيه ، تعالى عن قولهم ، و { من الجاهلين } يحتمل في أن لا يعلم أن الله { لو شاء لجمعهم } ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره وأراده ، وتذهب به لنفسك إلى ما لم يقدر الله به ، يظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { فلا تكونن من الجاهلين } وبين قوله لنوح عليه السلام { إني أعظك أن تكون من الجاهلين }{[4902]} وقد تقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء ، قال مكي والمهدي : والخطاب بقوله { فلا تكونن من الجاهلين } للنبي عليه السلام والمراد به أمته ، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ ، وقال قوم : ُوِّقر نوح لسنه وشيبته ، وقال قوم : جاء الحمل أشد على محمد صلى الله عليه وسلم لقربه من الله تعالى ومكانته عنده كما يحمل المعاقب على قريبه أكثر من حمله على الأجانب .
قال القاضي أبو محمد : والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجيء بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما ، وبين أن الأمر الذي نهي عنه محمد صلى الله عليه وسلم أكبر قدراً وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلى الله عليه وسلم .