اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكَ إِعۡرَاضُهُمۡ فَإِنِ ٱسۡتَطَعۡتَ أَن تَبۡتَغِيَ نَفَقٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ سُلَّمٗا فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأۡتِيَهُم بِـَٔايَةٖۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمۡ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (35)

قوله : { وَإِن كَانَ كَبُرَ } : هذا شَرْطٌ ، جوابه " الفاء " الداخلة على الشرط الثَّاني ، وجواب الثَّاني محذوف ، تقديره : فإن استطعت أن تبتغي فافعل ، ثم جُعِلَ الشَّرْطُ الثاني وجوابه جَواباً للشَّرْط الأوَّل ، وقد تقدَّم مِثْلُ ذلك في قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ } [ البقرة :38 ] إلاَّ أن جوابَ الثاني هناك مُظْهَرٌ .

و " كان " في اسمها وجهان :

أحدهما : أنه " إعراضهم " ، و " كَبُرَ " جملةٌ فعلية في محل نصب خبراً مقدَّماً على الاسم ، وهي مسألة خلاف : هل يجوزُ تقديمُ خبر " كان " على اسمها إذا كان فِعْلاً رافعاً لضمير مستتر أم لا ؟

وأمَّا إذا كان خبراً للمبتدأ ، فلا يجوز ألْبَتَّةَ لئلاَّ يَلْتَبِسَ بباب الفاعل ، واللَّبْسُ هنا مَأمُونٌ .

ووَجْهُ المنع اسْتصْحَابُ الأصل ، و " كَبُرَ " إذا قيل : إنه خبر " كان " ، فهل يحتاج إلى إضمار " قَدْ " أم لا ؟

والظاهر أنه لا يَحْتَاجُ ؛ لأنه كَثُرَ وُقُوعُ الماضي خبراً لها من غير " قد " نَظْماً ونَثْراً ، وبعضهم يخص ذلك ب " كان " ويمنعه في غيرها من أخواتها إلا ب " قد " ظَاهِرَةً أو مُضْمَرَةً ، ومن مجيء ذلك في خبر أخواتها قَوْلُ النابغة : [ البسيط ]

أمْسَتْ خَلاءً وأمْسَى أهْلُهَا احْتَمَلُوا *** أخْنَى عَلَيْهَا الَّذِي أخْنَى عَلَى لُبَدِ{[13757]}

والثاني : أن يكون اسمها ضمير الأمر والشأن ، والجملة الفعلية مُفَسِّرٌة له في مَحَلِّ نصب على الخبر ، فإعراضُهُمْ مرفوعٌ ب " كَبُر " ، وفي الوجه الأول ب " كان " ، ولا ضمير في " كَبُرَ " على الثاني ، وفيه ضمير على الأول ، ومثل ذلك في جواز هذين الوجهين قوله تعالى : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ }

[ الأعراف :137 ] { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } [ الجن :4 ] ، ف " فرعون " يحتمل أن يكون اسْماً ، وأن يكون فاعلاً ، وكذلك " سَفِيهُنَا " ، ومثله أيضاً قولُ امرئ القيس : [ الطويل ]

وإنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ *** فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ{[13758]}

ف " خليقة " يحتمل الأمرين ، وإظهار " قد " هنا يُرَجِّحُ قول من يشترطها ، وهل يجوز في مثل هذا التركيب التَّنَازعُ ، وذلك أن كُلاًّ من " كان " وما بعدها من الأفعال المذكورة في هذه الأمثلة يطلب المَرْفُوعَ من جهة المعنى ، وشروط الإعمال موجودة .

قال شهاب الدين{[13759]} : وكنت قديماً سألت الشيخ - يعني أبا حيَّان - عن ذلك ، فأجاب بالمَنْعِ مُحْتَجّاً بأن شَرْطَ الإعمال ألاَّ يكون أحَدُ المُتنازِعَينِ مُفْتَقِراً إلى الآخر ، وألاَّ يكون من تمام معناه و " كان " مُفْتَقِرةٌ إلى خبرها ، وهو من تمام معناها ، وهذا الذي ذكره من المَنْعِ ، وترجيحه{[13760]} ظَاهِرٌ ، إلاَّ أن النحويين لم يذكروه في شروطِ الإعمال .

وقوله : " وإن كان كَبُرَ " مُؤوَّلٌ بالاسْتِقْبَالِ ، وهو التَّبَيُّنُ والظهور فهو كقوله : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [ يوسف :26 ] أي : إن تَبَيَّنَ وَظَهَر ، وإلاَّ فهذه الأفعالُ قَدْ وَقَعَتْ وانقضت فكيف تَقَعُ شرطاً ؟

وقد تقدَّم أنَّ المُبَرِّدَ يُبْقي " كان " خَاصَّةً على مُضِيِّهَا في المعنى مع أدوات الشَّرْطِ ، وليس بشيء .

وأمَّا : " فإن استطعت " فهو مستقبل معنى ؛ لأنه لم يَقَعْ ، بخلاف كونه " كَبُرَ عليه إعراضهم " ، وقدِّ القَمِيص ، و " أن تبتغي " مفعول الاسْتِطَاعَةِ .

و " نفقاً " مفعول الابْتِغَاءِ .

والنَّفَقُ : السَّرَبُ النَّافِدُ في الأرض ، وأصله من جحرة اليَرْبُوع ، ومنه : النَّافِقَاءُ ، والقَاصِعَاءُ ، وذلك أن اليربوع يَحْفُرُ في الأرض سَرَباً ويجعل له بَابَيْنِ ، وقيل : ثلاثة : النَّافِقَاءُ ، والقَاصِعَاءُ والدَّابِقَاءُ ، ثم يَرِقُّ بالحفر ما تقارب وجه الأرض ، فإذا نَابَهُ أمْرٌ دفع تلك القِشْرَةٌ الرقيقة وخرج ، وقد تقدَّم اسْتِيفَاءُ هذه المادَّةِ عند قوله : { يُنْفِقُونَ } [ البقرة :3 ] ، و{ الْمُنَافِقِين } [ النساء :61 ] .

وقوله " في الأرض " ظاهرة أنه متعلقٌ بالفعل قَبْلَهُ ، ويجوز أن يكون صِفَةً ل " نَفَقاً " فيتعلّق بمحذوفٍ وهُوَ صِفَةٌ لمجرَّد التوكيد ، إذ النَّفَق لا يكون إلاَّ في الأرض .

وجوَّز أبو البقاء{[13761]} مع هذين الوجهين أن يكون حالاً من فاعل " تبتغي " ، أي : وأنت في الأرض . قال وكذلك في السماء . ويعني من جواز الأوجه الثلاثة ، وهذا الوَجْهُ الثالث ينبغي ألاَّ يجوز لِخُلُوِّهِ عن الفائدة .

والسُّلَّمُ : قيل المِصْعَدُ ، وقيل : الدَّرَجُ ، وقيل : السَّبَبُ تقول العرب : اتَّخِذْني سُلَّماً لحاجتك ، أي : سبباً .

قال كعب بن زهير : [ الطويل ]

وَلاَ لَكُمَا مَنْجًى مِن الأرْضِ فَابْغِيَا *** بِهَا نَفَقاً أوْ السماوات سُلَّما{[13762]}

وهو مُشْتَقٌ من السَّلامة ، قالوا : لأنه يسلم به إلى المصعد والسُّلَّم مُذَكَّر ، وحكى الفرَّاء تأنيثه{[13763]} .

قال بعضهم : ليس ذلك بالوَضْعِ ، بل لأنه بمعنى المَرْقَاة ، كما أنَّث بعضهم الصوت في قوله : [ البسيط ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** سَائِلْ بَنِي أسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ{[13764]}

لمَّا كان في معنى الصَّرْخة .

فصل في نزول الآية

روى ابن عباس أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مَنَافٍ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَحْضَرٍ{[13765]} من قريش ، فقالوا : يا محمد ائْتِنَا{[13766]} بآية من عند الله ، كما كانت الأنبياء تفعل فإنا نصدق بك ، فأبى الله أن يأتيهم بآية ، فأعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَشَقَّ ذلك عليه ، فنزلت هذه الآية{[13767]} .

والمعنى : وإن عَظُمَ عليك إعْرَاضُهُمْ عن الإيمان وشَقَّ ذلك عليك . وكان - عليه الصَّلاة والسَّلام - يَحْرِصُ على إيمان قومه أشَدَّ الحرص وكانوا إذا سألوا آيَةً أحَبَّ أن يريهم اللَّهُ ذلك طَمَعاً في إيمانهم ، فقال الله عزَّ وجلَّ : " فإن استطعت أن تبتغي " أي : تطلب وتتَّخِذَ نَفَقاً - سَرَباً - في الأرض فتذهب فيه ، أو سُلَّماً دَرَجاً ومِصْعَداً في السماء فَتَصْعَدَ فيه فتأتيهم بآية فافعل ، ولو شاء الله لَجَمَعَهُمْ على الهُدَى فآمنوا كلهم ، وهذا يَدُلُّ على أنه -تعالى- لا يريد الإيمان من الكافر ، بل يريد إبقاءه على الكُفْرِ ، وتقريره : أن قُدْرَةَ الكافر على الكُفْرِ إمَّا أن تكون صَالِحَةً للإيمان ، أو غير صالحة له ، فإن لم تكن صَالِحَةً له فالقُدْرةُ على الكُفْرِ مُسْتَلْزِمةٌ للكفر وغير صالحة للإيمان ، وخالق هذه القُدْرَةِ يكون قد أرادَ الكُفْرَ منه لا مَحَالَة ، وأما إن كانت هذه القُدْرةُ كما أنها صالحةٌ للكُفْرِ ، فهي أيضاً صالحة للإيمان ، فيكون نسبة القُدْرة إلى الطَّرفين مستويةً ، فيمتنع رُجْحَانُ أحد الطَّرَفَيْنِ على الآخر إلاّ لِدَاعِيةٍ مرجّحة ، وحصول تلك الدَّاعية ليس من العبد ، وإلاّ لزم التَّسَلْسُلُ ، فثبت أن خالق تلك الدَّاعيةِ هو الله تعالى ، وثبت أن مَجْمُوعَ القدرة مع الداعية الخالصة ويجب الفِعْلَ ، فثبت أن خالقَ مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مُريدٍ لذلك الإيمان .

قوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } .

نهي له عن هذه الحالة وهو قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } فإنَّ من يكفر لسابق علم الله فيه ، وهذا النَّهْيُ لا يقتضي إقدامه على مثل مثل هذه الحالة كقوله : { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب :1 ] لا يَدُلُّ على أنه - عليه الصلاة والسلام - أطاعهم وقَبِلَ دِينَهُمْ ، والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تَحَسُّرُكَ على تكذيبهم ، ولا تَجْزَع من إعراضهم عنك ، فإنَّك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل ، والمقصُودُ تبعيده عن مثل هذه الحالة .


[13757]:ينظر البيت في ديوانه ص (16)، جمهرة اللغة ص (1057)، خزانة الأدب 4/5، الدرر 2/57، لسان العرب (لبد) (خنا)، شرح الأشموني 1/111، شرح عمدة الحافظ ص (210)، شرح قطر الندى ص (134)، همع الهوامع 1/114، الدر المصون 3/50.
[13758]:تقدم.
[13759]:ينظر: الدر المصون 3/50.
[13760]:في ب: ترجيح.
[13761]:ينظر: الإملاء 1/240.
[13762]:ينظر: البحر 4/118. الدر المصون 3/51.
[13763]:ينظر: المذكر والمؤنث 97.
[13764]:البيت لرويشد بن كثير الطائي. ينظر: الدرر 6/239، سر صناعة الإعراب ص (11)، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص (166)، شرح المفصل 5/95، لسان العرب (صوت)، الأشباه والنظائر 2/103، 5/237، الإنصاف ص (773)، الخصائص 2/416، تخليص الشواهد ص (148)، خزانة الأدب 4/221، همع الهوامع 2/157، الدر المصون 3/51، البحر المحيط 4/119.
[13765]:ينظر: الرازي 12/171.
[13766]:في ب: ائتنا.
[13767]:ذكره الرازي في "تفسيره" (12/171) عن ابن عباس.