ثم وجه - سبحانه - المؤمنين إلى الطريق الذى كان يجب عليهم أن يسلكوه فى مثل هذه الأحوال فقال :
{ لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } .
و " لولا " حرف تحضيض بمعنى هلا والمراد " بأنفسهم " هنا إخوانهم فى الدين والعقيدة .
أى : هلا وقت أن سمعتم - أيها المؤمنون والمؤمنات - حديث الإفك هذا ظننتم " بأنفسكم " . أى : بإخوانكم وبأخواتكم ظنا حسنا جميلا ، وقلتم : هذا الحديث الذى أذاعه المنافقون كذب شنيع وبهتان واضح لا يصدقه عقل أو نقل .
وفى التعبير عن إخوانهم وأخواتهم فى الدين بأنفسهم ، أسمى ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبة والمودة والإخاء الصادق بين المؤمنين ، حتى لكأن الذى يظن السوء بغيره إنما ظنه بنفسه .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { . . . ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ . . . } وقوله - سبحانه - { . . وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ . . . } قال أبو حيان - رحمه الله - : " وعدل بعد الخطاب - فى الآية الأولى - إلى الغيبة فى هذه الآية - ، وعن الضمير إلى الظاهر ، فلم يجىء التركيب ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم هذا إفك مبين . ليبالغ - سبحانه - فى التوبيخ بطريقة الالتفات ، وليصرح بلفظ الإيمان ، دلالة على أن الاشتراك فيه ، مقتض فى أن لا يصدق مؤمن على أخيه قو عائب ولا طاعن ، وفيه تنبيه على أن المؤمن إذا سمع قالة سوء فى أخيه أن يبنى الأمر فيه على ظن الخير ، وأن يقول بناء على ظنه : هذا إفك مبين . هكذا باللفظ الصرحي ببراءة أخيه ، كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال ، وهذا من الأدب الحسن ، ومعنى بأنفسهم ، أى : كأن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات هذا الأمر على أنفسهم ، فإذا كان ذلك يبعد عليهم قضوا بأنه فى حق من هو خير منهم أبعد . . " .
ولقد فعل المؤمنون الصادقون ذلك ، فها هو ذا أبو ايوب خالد بن زيد الأنصارى ، قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب ، أما تسمع ما يقوله الناس فى عائشة - رضى الله عنها - ؟ قال : نعم ، وذلك الكذب . أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟ قالت : لا . والله ما كنت لأفعله . قال : فعائشة والله خير منك .
وفى رواية أن أبا أيوب قال لزوجته أم أيوب : ألا ترين ما يقال ؟ فقالت له : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا ؟ قال : لا ، فقالت : ولو كنت أنا بدل عائشة - رضى الله عنها - ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعائشة خير منى ، وصفوان خير منك .
وهكذا المؤمنون الأطهار الأخيار ، يبنون أمورهم على حسن الظن بالناس .
ورحم الله صاحب الانتصاف . فقد علق على ما قالته أم أيوب لزوجها فقال : ولقد ألهمت - أم أيوب - بنور الإيمان إلى هذا السر الذى انطوى عليه التعبير عن الغير من المؤمنين بالنفس ، فإنها نزلت زوجها منزلة صفوان ونفسها منزلة عائشة ، ثم أثبتت لنفسها ولزوجها البراءة والأمانة ، حتى أثبتتها لصفوان وعائشة بالطريق الأولى - رضى الله عنها - .
( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ، وقالوا : هذا إفك مبين ) . .
نعم كان هذا هو الأولى . . أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا . وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحمأة . . وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم . فظن الخير بهما أولى . فإن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرا . . كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته - رضي الله عنهما - كما روى الإمام محمد ابن إسحاق : أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة - رضي الله عنها ? - قال : نعم . وذلك الكذب . أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ? قالت : لا والله ما كنت لأفعله . قال : فعائشة والله خير منك . . ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره : " الكشاف " أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب : ألا ترين ما يقال ? فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سوءا ? قال : لا . قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة - رضي الله عنها - ما خنت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فعائشة خير مني ، وصفوان خير منك . .
وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه ، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة ، وما نسب إلى رجل من المسلمين : من معصية لله وخيانة لرسوله ، وارتكاس في حمأة الفاحشة ، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة !
{ لولا } هلا . { إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات كقوله تعالى : { ولا تلمزوا أنفسكم } . وإنما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة مبالغ في التوبيخ وإشعارا بأن الإيمان يقتضي ظن الخير بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم وذب الطاعنين عنهم كما يذوبهم عن أنفسهم . وإنما جاز الفصل بين { لولا } وفعله بالظرف لأنه منزل منزلته من حيث إنه لا ينفك عنه وذلك يتسع فيه مالا يتسع في غيره ، وذلك لأن ذكر الظرف أهم فإن التحضيض على أن لا يخلوا بأوله . { وقالوا هذا إفك مبين } كما يقول المستقين المطلع على الحال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.