قوله تعالى : { وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً } ، من متاع الدنيا ، { وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك } ، اختلفوا في هذه اللام ، قيل : هي لام كي ، معناه : آتيتهم كي تفتنهم فيضلوا ويضلوا ، كقوله : { لأسقيناهم ماء غدقا * لنفتنهم فيه } [ الجن-16 ] . وقيل : هي لام العاقبة يعني : فيضلوا وتكون عاقبة أمرهم الضلال ، كقوله : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص-8 ] . قوله : { ربنا اطمس على أموالهم } ، قال مجاهد : أهلكها ، والطمس : المحق . وقال أكثر أهل التفسير : امسخها وغيرها عن هيئتها . وقال قتادة : صارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة . وقال محمد بن كعب : جعل سكرهم حجارة ، وكان الرجل مع أهله في فراشه فصارا حجرين ، والمرأة قائمة تخبز فصارت حجرا . قال ابن عباس رضي الله عنه : بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا . ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة مشقوقة والجوزة مشقوقة وإنها لحجر . قال السدي : مسخ الله أموالهم حجارة ، والنخيل والثمار والدقيق والأطعمة ، فكانت إحدى الآيات التسع . { واشدد على قلوبهم } ، أي : أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح الإيمان ، " فلا يؤمنوا " ، قيل : هو نصب بجواب الدعاء بالفاء . وقيل : هو عطف على قوله " ليضلوا " أي : ليضلوا فلا يؤمنوا . وقال الفراء : هو دعاء محله جزم ، فكأنه قال : اللهم فلا يؤمنوا ، { حتى يروا العذاب الأليم } ، وهو الغرق . قال السدي : معناه أمتهم على الكفر .
ثم حكى القرآن الكريم بعد ذلك ، ما تضرع به موسى - عليه السلام - إلى الله - تعالى - من دعوات خاشعات ، بعد أن يئس من إيمان فرعون وملئه فقال - سبحانه - :
{ وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ . . . }
الزينة : اسم لما يتزينبه الإِنسان من ألوان اللباس وأوانى الطعام والشراب ، ووسائل الركوب . . وغير ذلك مما يستعمله الإِنسان في زينته ورفاهيته .
والمال : يشمل أصناف الزينة ، ويشمل غير ذلك مما يتملكه الإِنسان .
والمعنى : وقال موسى - عليه السلام - مخاطبا ربه ، بعد أن فقد الأمل في إصلاح فرعون وملئه : يا ربنا إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وأصحاب الرياسات منهم ، الكثير من مظاهر الزينة والرفاهية والتنعم ، كما أعطيتهم الكثير من الأموال في هذه الحياة الدنيا .
وهذا العطاء الجزيل لهم : قد يضعف الإِيمان في بعض النفوس ، إما بالإِغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الناظرين إليها ، وإما بالترهيب الذي يملكه هؤلاء المنعمون ، بحيث يصيرون قادرين على إذِلال غيرهم .
واللام في قوله { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } لام العاقبة والصيرورة أى : أعطيتهم ما أعطيتهم من الزينة والمال ، ليخلصوا لك العبادة والطاعة ، وليقابلوا هذا العطاء بالشكر ، ولكنهم لم يفعلوا بل قابلوا هذه النعم بالجحود والبطر ، فكانت عاقبة أمرهم الخسران والضلال ، فأزال يا مولانا هذه النعم من بين أيديهم .
قال القرطبى : " اختلف في هذه اللام ، وأصح ما قبل فيها - وهو قول الخليل وسيبويه - أنها لام العاقبة والصيرورة ، وفى الخبر : " إن الله - تعالى - ملكا ينادى كل يوم : لدوا للموت وابنو للخراب " أى : لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال ، صار كأنه أعطاهم ليضلوا " .
وقال صاحب المنار : " قوله : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } أى : لتكون عاقبة هذا العطاء إضلال عبادك عن سبيلك الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل والعمل الصالح ، ذلك لأن الزينة سبب الكبر والخيلاء والطغيان على الناس ، وكثرة الأموال تمكنهم من ذلك وتخضع رقاب الناس لهم ، كما قال - تعالى - { إِنَّ الإنسان ليطغى . أَن رَّآهُ استغنى } فاللام في قوله { لِيُضِلُّواْ } تسمى لام العاقبة والصيرورة ، وهى الدالى على أن ما بعدها أثر وغاية فعلية لمتعلقها ، يترتب عليه بالفعل لا بالسببية ، ولا بقصد فاعل الفعل الذي تتعلق به كقوله - تعالى - { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً . . . } ومنهم من يرى أن هذه اللام للتعليل ، والفعل منصوب بها ، فيكون المعنى :
وقال موسى مخاطبا ربه : يا ربنا إنك قد أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ، وإنك يا ربنا قد أعطيتهم ذلك على سبيل الاستدراج ليزدادوا طغيانا على طغيانهم ، ثم تأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وشبيه بهذه الجملة في هذا المعنى قوله - تعالى - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } وقد رجح هذا المعنى الإِمام ابن جرير فقال : " والصواب من القول في ذلك عندى أنها لام كى ، ومعنى الكلام : ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه ، ويضلوا عن سبيلك عبادك عقوبة منك لهم ، وهذا كما قال جل ثناؤه
{ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً . لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ومنهم من يرى أن هذه اللام هي لام الدعاء ، وأنها للدعاء عليهم بالزيادة من الإِضلال والغواية فيكون المعنى :
وقال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ؛ اللهم يا ربنا زدهم ضلالا على ضلالهم .
وقد سار على هذا الرأى صاحب الكشاف . فقد قال ما ملخصه : " فإن قلت : ما معنى قوله : { لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } ؟
قلت : هو دعاء بلفظ الأمر كقوله : ربنا اطمس واشدد . وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا ، وردد عليهم النصائح والمواعظ زمانا طويلا . وحذرهم من عذاب الله ومن انتقامه ، وأنذرهم سوء عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال ، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً وعلى الإِنذار إلا استكبارا ، وعن النصيحة إلا نبوا ، ولم يبق له مطمع فيهم . وعلم بالتجربة وطول الصحبة أو بوحى من الله ، أنه لا يجئ منهم إلا الغى والضلال .
لما رأى منهم كل ذلك : اشتد غضبه عليهم ، وكره حالهم ، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره وهو ضلالهم .
فكأنه قال : " ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال . . " .
وعلى أية حال فهذه الأقوال الثلاثة ، لكل واحد منها اتجاهه في التعبير عن ضيق موسى - عليه السلام - لإِصرار فرعون وشيعته على الكفر ، ولما هم فيه من نعم لم يقابلوها بالشكر ، بل قابلوها بالجحود والبطر .
وإن كان الرأى الأول هو أظهرها في الدلالة على ذلك ، وأقربها إلى سياق الآية الكريمة .
قال الشوكانى : " وقرأ الكوفيون { لِيُضِلُّواْ } بضم الياء . أى : ليوقعوا الإِضلال على غيرهم . وقرأ الباقون بالفتح أى يضلون في أنفسهم " .
وقوله : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } دعا عليهم بما يستحقونه من عقوبات بسبب إصرارهم على الكفر والضلال .
والطمس : الإِهلاك والإِتلاف ومحو أثر الشيء يقال : طمس الشيء ويطمس طموسا إذا زال بحيث لا يرى ولا يعرف لذهاب صورته .
والشد : الربط والطبع على الشئ ، بحيث لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخل فيه ما هو خارج منه .
والمعنى : وقال موسى مخاطبا ربه : يا ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ، وقد أعطيتهم ذلك ليشكروك ، ولكنهم لم يفعلوا ، بل قابلوا عطاءك بالجحود ، اللهم يا ربنا اطمس على أموالهم بأن تهلكها وتزيلها وتمحقها من بين أيديهم ، حتى ترحم عبادك المؤمنين ، من سوء استعمال الكافرين لنعمك في الإِفساد والأذى .
{ واشدد على قُلُوبِهِمْ } بأن تزيدها قسوة على قسوتها ، وعناداً على عنادها مع استمرارها على ذلك ، حتى يأتيهم العذاب الأليم الذي لا ينفع عند إتيانه إيمان ، ولا تقبل معه توبة ، لأنهما حدثا في غير وقتهما .
قال الجمل : " وهذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى - عليه السلام - .
وقال الإِمام ابن كثير : " وهذه الدعوة كانت من موسى - عليه السلام - غضبا الله - تعالى - ولدينه على فرعون وملئه ، الذين تبين له أنه لا خير فيهم ، كما دعا نوح - عليه السلام - على قومه فقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً . . }
ولهذا استجاب الله - تعالى - لموسى - عليه السلام - هذه الدعوة فيهم . . "
فقال : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } .
واتجه موسى - عليه السلام - إلى ربه ، وقد يئس من فرعون وملئه أن يكون فيهم خير ، وأن تكون قد بقيت فيهم بقية ، وأن يرجى لهم صلاح . اتجه إليه يدعو على فرعون وملئه ، الذين يملكون المال والزينة ، تضعف إزاءهما قلوب الكثيرين ، فتنتهي إلى التهاوي أمام الجاه والمال ، وإلى الضلال . . اتجه موسى إلى ربه يدعوه أن يدمر هذه الأموال ، وأن يشد على قلوب أهلها فلا يؤمنوا إلا حيث لا ينفعهم إيمان . فاستجاب اللّه الدعاء :
( وقال موسى : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا . ربنا ليضلوا عن سبيلك . ربنا اطمس على أموالهم ، واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال : قد أجيبت دعوتكما ، فاستقيما ، ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون )
( ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ) . .
ينشأ عنها إضلال الناس عن سبيلك ، وإما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين . وإما بالقوة التي يمنحها المال لأصحابه فيجعلهم قادرين على إذلال الآخرين أو إغوائهم . ووجود النعمة في أيدي المفسدين لا شك يزعزع كثيراً من القلوب التي لا يبلغ من يقينها باللّه أن تدرك أن هذه النعمة ابتلاء واختبار ، وأنها كذلك ليست شيئاً ذا قيمة إلى جانب فضل اللّه في الدنيا والآخرة . وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة الناس .
ويطلب لوقف هذا الإضلال ، ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء ، أن يطمس اللّه على هذه الأموال بتدميرها والذهاب بها ، بحيث لا ينتفع بها أصحابها . أما دعاؤه بأن يشد اللّه على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، فهو دعاء من يئس من صلاح هذه القلوب ، ومن أن يكون لها توبة أو إنابة . دعاء بأن يزيدها اللّه قسوة واستغلاقاً حتى يأتيهم العذاب ، وعندئذ لن يقبل منهم الإيمان ، لأن الإيمان عند حلول العذاب لا يقبل ، ولا يدل على توبة حقيقية باختيار الإنسان .
هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى ، عليه السلام ، على فرعون وَمَلَئه ، لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ، ظلما وعلوا وتكبرًا وعتوا ، قال : { رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً } أي : من أثاث الدنيا ومتاعها ، { وأموالا } أي : جزيلة كثيرة ، { فِي } هذه { الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ } - بفتح الياء - أي : أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم ، كما قال تعالى : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }
وقرأ آخرون : { لِيُضِلُّوا } بضم الياء ، أي : ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك ، ليظن من أغويته أنك إنما أعطيت هؤلاء هذا لحبك إياهم{[14372]} واعتنائك بهم .
{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد : أي : أهلكها . وقال الضحاك ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس : جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت .
وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة .
وقال محمد بن كعب القُرَظي : اجعل{[14373]} سُكَّرهم حجارة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر ، عن أبي مَعْشَر ، حدثني محمد بن قيس : أن محمد بن كعب قرأ سورة يونس على عمر بن عبد العزيز : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ } إلى قوله : { اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } إلى آخرها [ فقال له : عمر يا أبا حمزة{[14374]} أي شيء الطمس ؟ قال : عادت أموالهم كلها حجارة ]{[14375]} فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له : ائتني بكيس . [ فجاءه بكيس ]{[14376]} فإذا فيه حمص وبيض ، قد قطع حول حجارة .
وقوله : { وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } قال ابن عباس : أي اطبع عليها ، { فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ }
وهذه الدعوة كانت من موسى ، عليه السلام ، غضبًا لله ولدينه على فرعون وملئه ، الذين تبين له أنه لا خير فيهم ، ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح ، عليه السلام ، فقال : { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا } [ نوح : 26 ، 27 ] ؛ ولهذا استجاب الله تعالى لموسى ، عليه السلام ، فيهم{[14377]} هذه الدعوة ، التي أمَّنَ عليها أخوه هارون ، فقال تعالى : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا }
قال أبو العالية ، وأبو صالح ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس : دعا موسى وأمَّنَ هارون ، أي : قد أجبناكما فيما سألتما من تدمير آل فرعون .
وقد يحتج بهذه الآية من يقول : " إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة يُنزل منزلة{[14378]} قراءتها ؛ لأن موسى دعا وهارون أمن " .
عطف بقية ما جرى في القصة مما فيه عبرة وموعظة . وهذا مقدمة لخبر خروج موسى ومَن معه من أرض مصر . فهذه المقدمة لتعريف كرامة موسى عليه السلام على ربه بأن استجاب له دعاءه ، وأنفذ برسالته مُراده تعالى من إنقاذ بني إسرائيل من الاستعباد .
ومهَّد موسى لدعائه تمهيداً يدل على أن ما سأله من الله لزجر فرعون وملئه إنما هو لمصلحة الدين لا للانتقام منه لقومه ولنفسه ، فسأل الله سلب النعمة عن فرعون وملئه وحلولَ العذاب بهم لخضد شوكتهم وتذليل تجبرهم ليرجعوا عن ضلالهم ويسهل قبولهم الإيمان .
ولما كانت النعمة مغرية بالطغيان لأهل الجهالة والخباثة جعل موسى إمداد فرعون بالنعمة مغرياً لفرعون بالاسترسال على الإعراض عن الدين فكان دعاء موسى عليهم استصلاحاً لهم وتطلباً لإيمانهم بوسائل التشديد عليهم ، ولكن الله علم من قلوبهم ما لم يعلمه موسى وقضى عليهم بالاستئصال .
وافتتح الدعاءُ بالنداء لمناسبته لمقام الدعاء . ونودي الله بوصف الربوبية تذللاً لإظهار العبودية .
وقوله : { إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً } توطئة للدعاء عليهم فليس المقصود به حقيقة الإخبار ضرورة أن موسى يوقن بأن الله يعلم ذلك فتعين أن الخبر مستعمل في التمهيد لطلب سلب النعمة عنهم في قوله : { ليضلوا عن سبيلك } . ثم الانتقال إلى الدعاء بسلب ما أوتوه .
فاقتران الخبر بحرف ( إنّ ) في قوله : { إنَّك آتيت فرعون } الخ مقصود به الاهتمام بهذا المعنى الذي استعمل فيه الخبر إذ ليس المقام مقام دفع تردد أو دفع إنكار .
وقد تردد المفسرون في محل اللام في قوله : { ليضلوا عن سبيلك } . والذي سلكه أهل التدقيق منهم أن اللام لام العاقبة . ونُقل ذلك عن نحاة البصرة : الخليل وسيبويه ، والأخفش ، وأصحابهما ، على نحو اللام في قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] فاللام الموضوعة للتعليل مستعارة لمعنى الترتب والتعقيب الموضوع له فاء التعقيب على طريقة الاستعارة التبعية في متعلق معنى الحرف فشبه ترتب الشيء على شيء آخر ليس علةً فيه بترتب المعلول على العلة للمبالغة في قوة الترتب حتى صار كأنه مقصود لمن ظهر عنده أثره ، فالمعنى : إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً فضلوا بذلك وأضلوا .
أحدها : أن يكون للتعليل ، وأن المعنى : إنك فعلت ذلك استدراجاً لهم ، ونسب إلى الفراء ، وفسر به الطبري .
الثاني : أن الكلام على حذف حرف ، والتقدير : لئَلا يضلوا عن سبيلك أي فضلُّوا . حكاه الفخر .
الثالث : أن اللام لام الدعاء . روي هذا عن الحسن . واقتصر عليه في « الكشاف » . وقاله ابن الأنباري . وهو أبعد الوجوه وأثقلها .
الرابع : أن يكون على حذف همزة الاستفهام . والتقدير : أليضلوا عن سبيلك آتيناهم زينة وأموالاً تقريراً للشنعة عليهم ، قاله ابن عطية .
ويكون الاستفهام مستعملاً في التعجب ، قاله الفخر .
الخامس : تأويل معنى الضلال بأنه الهلاك ، قاله الفخر . وهي وجوه ضعيفة متفاوتة الضعف فلا نطيل بتقريرها .
والزينة : ما يتزين به الناس ، وما يحسن في أنظارهم من طرائف الدنيا ، كالحلي والجواهر والمباني الضخمة . قال تعالى : { زيَّن للناس حب الشهوات } [ آل عمران : 14 ] وقال : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } [ الكهف : 46 ] وقال : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] .
والأموال : ما به قوام المعاش ، فالزينة تلهيهم عن اتباع المواعظ ، وتعظّم شأنهم في أنظار قومهم ، والأموال يسخِّرون بها الرعيَّة لطاعتهم ، وقد كان للفراعنة من سعة الرزق ورفاعية العيش ما سار ذكره في الآفاق . وظهرت مُثل منه في أهرامهم ونواويسهم .
وأعيد النداء بين الجملة المعلِّلة والجملة المعلَّلة لتأكيد التذلل والتعرض للإجابة ولإظهار التبرؤ من قَصد الاعتراض .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب { ليَضلوا } بفتح الياء . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بضم الياء على معنى سعيهم في تضليل الناس .
والمعنى الحاصل من القراءتين متحد لأنهم إذا ضَلوا في أنفسهم وهم قادة قومهم كان ضلالهم تضليلاً لغيرهم ، وكذلك إذا أضلوا الناس فإنهم ما أضلوهم إلا وهم ضالون مثلهم . وقد علمت آنفاً أن الزينة سبب ضلالهم والأموال سبب إضلال الناس .
وأعيد النداء ثالثَ مرة ؛ لزيادة تأكيد التوجه والتضرع .
وجملة : { اطمس على أموالهم } هي المقصود من هذا الكلام ، والنداء يقوم مقام وصل الجملة بما قبلها بمنزلة حرف العطف .
والطمْس : المَحْو والإزالة . وقد تقدم في قوله : { من قبل أن نَطْمس وجوهاً } في سورة [ النساء : 47 ] . وفعله يتعدى بنفسه كما في آية سورة النساء ، ويُعدى بحرف ( على ) كما هنا . وقوله تعالى : { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } في سورة [ يس : 66 ] . ولعل تعديته ب ( على ) لإرادة تمكن الفعل من المفعول ، أو لتضمين الطمس معنى الاعتلاء بآلة المحو والإزالة ، فطمس الأموال إتلافها وإهلاكها .
وأما قوله : { واشدد } فأحسب أنه مشتق من الشد ، وهو العسر . ومنه الشدة للمصيبة والتحرج ، ولو أريد غير ذلك لقيل : واطبع ، أو واختم ، أو نحوهما ، فيكون شدّ بمعنى أدخل الشدّ أو استعمله مثل جَد في كلامه ، أي استعمَل الجد .
وحرف ( على ) مستعار لمعنى الظرفية استعارة تبعية لإفادة تمكن الشدة . والمعنى : أدخل الشدة في قلوبهم .
والقلوب : النفوس والعقول . والمعنى : أنه يدعو عليهم بالأنكاد والأحزان التي تجعل قلوبهم في ضيق وحرج أي اجعلهم في عناء وبلبلة بال ما داموا في الكفر . وهذا حرص منه عليه السلام على وسائل هدايتهم رجاء أنهم إذا زالت عنهم النعم وضاقت صدورهم بكروب الحياة تفكروا في سبب ذلك ، فعجَّلوا بالنَّوبة إلى الله كما هو معتاد النفوس الغافلة قال تعالى : { وإذا مسّ الإنسان ضر دعا ربَّه منيباً إليه } [ الزمر : 8 ] .
ويجوز أن يكون { اشدد } من الشد ، وهو الهجوم .
يقال : شد عليه ، إذا هجم ، وذلك أن قلوبهم في حالة النعمة والدعة آمنة ساكنة فدعا الله أن يشد عليهم بعذابه ، تمثيلاً لحال إصابة نفوسهم بالأكدار والأحزان بحال من يَشُد على عدوّه ليقتله وهو معنى قوله تعالى : { وأجْلب عليهم بخيلك ورجلك } [ الإسراء : 64 ] أي طوّعهم لحكمك وسَخّرهم .
وبهذا يظهر أن موقع الفاء في قوله : { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } أن تكون فاء السببية في جواب الدعاء ، أي افعَلْ بهم ذلك ليؤمنوا . والفعل منصوب بأن مضمرة إضماراً واجباً بعد فاء السببية .
فقوله : { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب } في قوة أن يقال : فيؤمنوا حين يرون العذاب لا قَبْل ذلك .
وإنما عدل عن إيقاع جواب الدعاء بصيغة إثبات الإيمان ، إلى إيراده بصيغة نفي مُغيّا بغاية هي رؤية العذاب سلوكاً لأسلوب بديع في نظم الكلام لأنه أراد أن يجمع بين ترتيب الجواب على الدعاء وبين ما استبان له من طبع نفوسهم بطبع أنهم لا تنفع فيهم الحجج وأن قساوة قلوبهم وشراسة نفوسهم لا تذللها إلا الآلام الجسدية والنفسانية ، وكل ذلك علاجٌ بما هو مظنة إيصالهم من طرق الضغط والشدة حيث لم تُجْد فيهم وسائل الحجة ، فقال : { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } أي أن شأنهم ذلك ، وهذا إيجاز بديع إذ جمع في هذا التركيب جواب الدعاء وبيانَ علة الدعاء عليهم بذلك . وأصل الكلام : فيؤمنوا فإنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب الأليم .
والمقصود من جواب فعل الدعاء هو غاية الجواب التي بعد حتى ، فتلك هي مصب الجواب . وهذا الوجه في تفسير الآية وجه لا ترهقه غبرة الإشكال ، ولا يعسر معه المنال ، ويجوز أن يكون قوله : { فلا يومنوا } الخ عطفاً على قوله : { ليضلوا عن سبيلك } وجملة الدعاء بينهما معترضة .
والمعنى : ليضلوا عن سبيلك فيستمر ضلالهم حتى يروا العذاب الأليم . وهذا تأويل المبرد والزجاج . والمراد بالعذاب الأليم عذاب الفقر والجوع وعذاب النكد في النفس .
والرؤية مستعملة في الإحساس على وجه المجاز المرسل ، أو مستعملة كناية عن حلول العذاب بهم لأن المشاهدة ملازمة لحلول الشيء المشاهد .