قوله تعالى : { ومنهم أميون } . أي من اليهود أميون لا يحسنون القراءة والكتابة ، جمع أمي ، منسوب إلى الأم كأنه باق على ما انفصل من الأم لم يتعلم كتابة ولا قراءة . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنا أمة أمية " لا نكتب ولا نحسب وقيل : هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة .
قوله تعالى : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } . قرأ أبو جعفر : أماني بتخفيف الياء ، كل القرآن حذف إحدى الياءين تخفيفاً ، وقراءة العامة بالتشديد ، وهي جمع الأمنية وهي التلاوة ، قال الله تعالى : { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } أي في قراءته .
قال أبو عبيدة : إلا تلاوته وقراءة عن ظهر القلب لا يقرؤونه من كتاب ، وقيل : يعلمونه حفظاً وقراءة لا يعرفون معناه . وقال ابن عباس : يعني غير عارفين بمعاني الكتاب ، وقال مجاهد وقتادة : إلا كذباً وباطلاً ، قال الفراء : الأماني : الأحاديث المفتعلة ، قال عثمان رضي الله عنه : ما تمنيت منذ أسلمت أي ما كذبت ، وأراد بها الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم ثم أضافوها إلى الله من تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ، وقال الحسن و أبو العالية : هي من التمني ، وهي أمانيهم الباطلة التي يتمنونها على الله عز وجل مثل قولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } وقولهم : { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } وقولهم :{ نحن أبناء الله وأحباؤه } فعلى هذا لا يكون بمعنى لكن أي لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أشياء يحصل لهم .
قوله تعالى : { وإن هم } . وما هم .
قوله تعالى : { إلا يظنون } . يعني وما يظنون إلا ظناً وتوهماً لا يقيناً ، قاله قتادة والربيع ، وقال مجاهد : يكذبون .
ثم بين القرآن الكريم بعد ذلك حال عوام اليهود ومقلديهم ، بعد أن بين حال علمائهم ومنافقيهم فقال تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } أي : ومن اليهود قوم أميون لا يحسنون الكتابة ، ولا يعلمون من كتابهم التوراة سوى أكاذيب اختلقها لهم علماؤهم أو أمنيات باطلة يقدرونها في أنفسهم بدون حق ، أو قراءات عارية عن التدبر والفهم ، وقصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة اليقين المبني على البرهان القاطع والدليل الساطع .
فالآية الكريمة فيها زيادة تيئيس للمؤمنين من إيمان كافة اليهود بفرقهم المختلفة . فإنهم قد وصلوا إلى حال من الشناعة لا مطمع معها في هداية ، فعلماؤهم محرفون لكتاب الله على حسب أهوائهم وشهواتهم ، وعوامهم لا يعرفون من كتابهم إلا الأكاذيب والأوهام التي وضعها لهم أحبارهم ، وأمة هذا شأن علمائها وعوامها لا ينتظر منها أن تستجيب للحق أو أن تقبل على الصراط المستقيم .
و ( الأماني ) - بالتشديد - جمع أمنية ، مأخوذة من تمنَّى الشيء أي : أحب أن يحصل عليه ، أو من تمنى إذا كذب ، أو من تمنى الكتاب أي قرأه .
فإن فسرنا الأماني بالأول كان قوله تعالى { إِلاَّ أَمَانِيَّ } معناه : إلا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات .
وإن فسرناها بالكذب ، كان قوله تعالى : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } معناه : إلا ما يقرءونه من قراءات خالية من التدبر ، وعارية عن الفهم . من قوله تمنى كتاب الله أول ليله . . . أي قرأ .
هذا ، وقد رجح ابن جرير تفسير ( الأماني ) بالأكاذيب فقال : ما ملخصه " وأولى ما روينا في تأويل قوله تعالى : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } بالصواب ، أن هؤلاء الأميين لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئاً ، ولكنهم يتخرصون الكذب ، ويتقولون الأباطيل كذباً وزوراً ، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله بدليل قوله تعالى بعد { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظناً منهم لا يقيناً " .
والذي نراه أن المعاني الثلاثة للأماني تنطبق على اليهود ، وكلها حصلت منهم ؛ وما دام يصدق عليهم المعاني الثلاثة لغة فجميعها مرادة من الآية ، ولا معنى لأن نشتغل بترجيح بعضها على بعض كما فعل ابن جرير وغيره .
وعلى أي تفسير من هذه التفاسير للأماني ، فالاستثناء منقطع ، لأن أي واحد من هذه المعاني ليس من علم الكتاب الحقيقي في شيء .
وفي قوله تعالى : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } زيادة تجهيل لهم ، لأن أمنياتهم هذه من باب الأوهام التي لا تستند إلى دليل أو شبه دليل ، أو من باب الظن الذي هو ركون النفس إلى وجه من وجهين يحتملهما الأمر دون أن تبلغ في ذلك مرتبة القطع واليقين . وهذا النوع من العلم لا يكفي في معرفة أصول الدين التي يقوم عليها الإِيمان العميق ، فهم ليسوا على علم يقيني من أمور دينهم ، وإنما هم يظنونها ظناً بدون استيقان ، والظن لا يغني من الحق شيئاً .
ثم يستطرد يقص على المسلمين من أحوال بني إسرائيل : إنهم فريقان . فريق أمي جاهل ، لا يدري شيئا من كتابهم الذي نزل عليهم ، ولا يعرف منه إلا أوهاما وظنونا ، وإلا أماني في النجاة من العذاب ، بما أنهم شعب الله المختار ، المغفور له كل ما يعمل وما يرتكب من آثام ! وفريق يستغل هذا الجهل وهذه الأمية فيزور على كتاب الله ، ويحرف الكلم عن مواضعه بالتأويلات المغرضة ، ويكتم منه ما يشاء ، ويبدي منه ما يشاء ويكتب كلاما من عند نفسه يذيعه في الناس باسم أنه من كتاب الله . . كل هذا ليربح ويكسب ، ويحتفظ بالرياسة والقيادة :
( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ، فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ، ثم يقولون : هذا من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا . فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون ) . .
يقول تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } أي : ومن أهل الكتاب ، قاله مجاهد : والأميون جمع أمي ، وهو : الرجل الذي لا يحسن الكتابة ، قاله أبو العالية ، والربيع ، وقتادة ، وإبراهيم النَّخَعي ، وغير واحد {[2049]} وهو ظاهر في قوله تعالى : { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ [ إِلا أَمَانِيَّ ] }{[2050]} أي : لا يدرون ما فيه . ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمي ؛ لأنه لم يكن يحسن الكتابة ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } [ العنكبوت : 48 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " إنا أمة أمية ، لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا " الحديث . أي : لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ }
وقال ابن جرير : نسبت العرب من لا يكتب ولا يَخُط من الرجال إلى أمِّه في جهله بالكتاب دون أبيه ، قال : وقد روي عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[2051]} قول خلاف هذا ، وهو ما حدثنا به أبو كُرَيب : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } قال : الأميون قوم لم يصدِّقوا رسولا أرسله الله ، ولا كتابًا أنزله الله ، فكتبوا كتابًا بأيديهم ، ثم قالوا لقوم سَفلة جُهَّال : { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وقال : قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ، ثم سماهم أميين ، لجحودهم كتب الله ورسله . ثم قال ابن جرير : وهذا التأويل{[2052]} على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم . وذلك أن الأمي عند العرب : الذي لا يكتب{[2053]} .
قلت : ثم في صحة هذا عن ابن عباس ، بهذا الإسناد ، نظر . والله أعلم .
قوله{[2054]} تعالى : { إِلا أَمَانِيَّ } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : { إِلا أَمَانِيَّ } إلا أحاديث .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِلا أَمَانِيَّ } يقول : إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبًا . وقال مجاهد : إلا كذبًا . وقال سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج عن مجاهد : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ } قال : أنَاس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا ، وكانوا يتكلمون بالظن{[2055]} بغير ما في كتاب الله ، ويقولون : هو من الكتاب ، أمانيّ يتمنونها . وعن الحسن البصري ، نحوه .
وقال أبو العالية ، والربيع وقتادة : { إِلا أَمَانِيَّ } يتمنون على الله ما ليس لهم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { إِلا أَمَانِيَّ } قال : تمنوا فقالوا : نحن من أهل الكتاب . وليسوا منهم .
قال ابن جرير : والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس ، وقال مجاهد : إن الأميين الذين وصفهم الله أنهم لا يفقهون من الكتاب - الذي أنزل{[2056]} الله على موسى - شيئًا ، ولكنهم يَتَخَرَّصُون الكذب ويتخرصون الأباطيل كذبًا وزورًا . والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه . ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه : " ما تغنيت ولا تمنيت " . يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب{[2057]} .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } ولا يدرون ما فيه ، وهم يجحدون{[2058]} نبوتك بالظن .
وقال مجاهد : { وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } يكذبون .
وقال قتادة : وأبو العالية ، والربيع : يظنون الظنون بغير الحق .
{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب } جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة ، ويتحققوا ما فيها . أو التوراة { إلا أماني } استثناء منقطع . والأماني : جمع أمنية وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر ، ولذلك تطلق ، على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ والمعنى لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليدا من المحرفين أو مواعيد فارغة . سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة . وقيل إلا ما يقرأون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره من قوله :
تمنى كتاب الله أول ليله *** تمني داود الزبور على رسل
وهو لا يناسب وصفهم بأنهم أميون . { وإن هم إلا يظنون } ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم ، وقد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع ، وإن جزم به صاحبه : كاعتقاد المقلد والزائغ عن الحق لشبهة .
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } ( 78 )
و { أميون } هنا عبارة عن جهلة بالتوراة ، قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما : المعنى ومن هؤلاء اليهود المذكورين ، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم ، أي إنهم ممن لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضلال ، وقيل : المراد هنا بالأميين قوم ذهب كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أميين ، وقال عكرمة والضحاك : هم في الآية نصارى العرب ، وقيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قال : هم المجوس . والضمير في { منهم } على هذه الأقوال هو للكفار أجمعين ، قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقول أبي العالية ومجاهد وجه( {[838]} ) هذه الأقوال ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «أميون » بتخفيف الميم ، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ، نسب إلى الأم : إما لأنه بحَال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه ، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب ، قاله الطبري ، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها ، وقيل نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة ، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك ، وقيل نسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف ، فإنها لا تقرأ لا تكتب ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في العرب : «إنا أمة أميّة لا نحسب ولا نكتب »( {[839]} ) ، والحديث : والألف واللام في { الكتاب } للعهد ، ويعني به التوراة في قول أبي العالية ومجاهد . والأماني جمع أمنية ، وقرأ أبو جعفر وشيبة( {[840]} ) ونافع في بعض ما روي عنه «أماني » بتخفيف الياء( {[841]} ) ، وأصل أمنية أمنوية على وزن أفعولة( {[842]} ) ، ويجمع هذا الوزن على أفاعل ، وعلى هذا يجب تخفيف الياء ، ويجمع على أفاعيل فعلى هذا يجيء أمانيي أدغمت الياء في الياء فجاء «أماني » .
واختلف في معنى { أماني } ، فقالت طائفة : هي هنا من تمني الرجل إذا ترجى( {[843]} ) ، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ وإنما يقول بظنه شيئاً سمعه ، فيتمنى أنه من الكتاب ، وقال آخرون : هي من تمنى إذا تلا ، ومنه قوله تعالى { إلا إذا ألقى الشيطان في أمنيته }( {[844]} ) [ الحج : 52 ] ومنه قول الشاعر [ كعب بن مالك ] : [ الطويل ]
تمنى كتاب الله أول ليله . . . وآخرة لاقى حمام المقادِرِ( {[845]} )
فمعنى الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شيء يتلى لا علم لهم بصحته ، وقال الطبري : هي من تمنى الرجل إذا حدث بحديث مختلق كذب ، وذكر أهل اللغة أن العرب تقول تمنى الرجل إذا كذب واختلق الحديث ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه( {[846]} ) : «ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت » .
فمعنى الآية أن منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أنهم يسمعون من الأحبار أشياء مختلقة يظنونها من الكتاب ، وإن نافية بمعنى ما ، والظن هنا على بابه في الميل( {[847]} ) إلى أحد الجائزين .
معطوف على قوله : { وقد كان فريق منهم يسمعون } [ البقرة : 75 ] عطف الحال على الحال و { منهم } خبر مقدم وتقديمه للتشويق إلى المسند إليه كما تقدم في قوله تعالى : { ومن الناس من يقول } [ البقرة : 8 ] والمعنى كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة وإذا انتفى إيمان أهل العلم منهم المظنون بهم تطلب الحق المنجي والاهتداء إلى التفرقة بينه وبين الباطل فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار عن أسرار دينهم فكيف تطمعون أيضاً في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم وعلمائهم فالفريق الأول هم الماضون . وعلى هذا فجملة { ومنهم أميون } معطوفة على جملة { وقد كان فريق منهم } إلخ باعتبار كونها معادلاً لها من جهة ما تضمنته من كونها حالة فريق منهم وهذه حالة فريق آخر . وأما قوله : { وإذا لقوا } [ البقرة : 76 ] وقوله : { وإذا خلا } [ البقرة : 76 ] فتلك معطوفات على جملة { وقد كان فريق } عطف الحال على الحال أيضاً لكن باعتبار ما تضمنته الجملة الأولى من قوله : { يسمعون } الذي هو حال من أحوال اليهود وبهذا لا يجيء في جملة { ومنهم أميون } التخيير المبني على الخلاف في عطف الأشياء المتعددة بعضها على بعض هل يجعل الأخير معطوفاً على ما قبله من المعطوفات أو معطوفاً على المعمول الأول لأن ذلك إذا كان مرجع العطف جهة واحدة وهنا قد اختلفت الجهة .
والأمي من لا يعرف القراءة والكتابة والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي ، وقيل : منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي إنه بقي على الحالة التي كان عليها مدة حضانة أمه إياه فلم يكتسب علماً جديداً ولا يعكر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في النسب أن يقولوا أمهى بناء على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها وقد قالوا في جمع الأم : أمهات فردُّوا المفرد إلى أصله فدلوا على أن أصل أم أمهة لأن الأسماء إذا نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلاماً قد يقع فيها تغيير لأصلها .
وقد اشتهر اليهود عند العرب بوصف أهل الكتاب فلذلك قيل هنا : { ومنهم أميون } أي ليس جميعهم أهل كتاب . ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلاً } [ آل عمران : 75 ] وقال ابن صَيَّاد للنبيء صلى الله عليه وسلم « أشهد أنك رسول » وذلك لما تقتضيه الأميين من قلة المعرفة ومن أجل ذلك كانت الأمية معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم حيث كان أعلم الناس مع كونه نشأ أميًّا قبل النبوءة وقد قال أبو الوليد الباجي : إن الله علّم نبيه القراءة والكتابة بعد تحقق معجزة الأمية بأن يطلعه على ما يعرف به ذلك عند الحاجة استناداً لحديث البخاري في صلح الحديبية وأيده جماعة من العلماء في هذا وأنكر عليه أكثرهم مما هو مبسوط في ترجمته في كتاب « المدارك » لعياض وما أراد إلا إظهار رأيه .
والكتاب إما بمعنى التوراة اسم للمكتوب وإما مصدر كتب أي لا يعلمون الكتابة ويبعده قوله بعده : { إلا أماني } فعلى الوجه الأول يكون قوله : { لا يعلمون الكتاب } أثراً من آثار الأمية أي لا يعلمون التوراة إلا علماً مختلطاً حاصلاً مما يسمعونه ولا يتقنونه ، وعلى الوجه الثاني تكون الجملة وصفاً كاشفاً لمعنى الأميين كقول أوس بن حجر :
الألمعي الذي يظن بك الظ *** ن كأن قد رأى وقد سمعا
والأمانيُّ بالتشديد جمع أُمْنِيَّة على وزن أفاعيل وقد جاء بالتخفيف فهو جمع على وزن أفاعل عند الأخفش كما جمع مفتاح على مفاتِح ومفاتيح ، والأمنية كأثْفِيَّة وأُضحية أفْعُولة كالأعجوبة والأضحوكة والأكذوبة والأغلوطة ، والأماني كالأعاجيب والأضاحيك والأكاذيب والأغاليط ، مشتقة من مَنَى كرمى بمعنى قدَّر الأمرَ ولذلك قيل تمنى بمعنى تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر ، ومنَّاه أي جعله مَانياً أي مقدِّراً كناية عن الوعد الكاذب لأنه ينقل الموعود من تقدير حصول الشيء اليومَ إلى تقدير حصوله غداً ، وهكذا كما قال كعب بن زهير :
فلا يَغُرَّنْك ما مَنَّت وما وعدت *** إن الأَماني والأحلامَ تضليل
ولأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقاً لخبره فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة ، فالأماني هي التقادير النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقاً وليست بحق أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها ، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد مالها من العوائد والرسوم والمواسم شرعاً ، أو هي التقادير التي وضعها الأحبار موضع الوَحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلاً وهذا أظهر الوجوه .
وقيل : الأماني هنا الأكاذيب أي ما وضعه لهم الذين حرفوا الدين ، وقد قيل الأماني القراءة أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظوها ويدرسونها لا يفقهون منها معنى كما هو عادة الأمم الضالة إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم وأنشدوا على ذلك قول حسان في رثاء عثمان رضي الله عنه :
تمنَّى كتابَ الله أوَّلَ لَيْلِهِ *** وآخِرَه لاَقى حمام المَقَادِر
أي قرأ القرآن في أول الليل الذي قُتل في آخره .
وعندي أن الأماني هنا التمنيات وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب وهم أميون لا يعلمونه ولكنهم يدَّعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماءَ فلما لم ينالوا العلم ادعوه باطلاً فإن غي العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه يتمنى لو كان عالماً ، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحداً من هاته المعاني ليس من علم الكتاب .