ثم قال : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } ، يعني : القرآن ، كذبوا به ولم يحيطوا بعلمه ، { ولما يأتهم تأويله } ، أي : عاقبة ما وعد الله في القرآن ، أنه يؤول إليه أمرهم من العقوبة ، يريد : أنهم لم يعلموا ما يؤول إليه عاقبة أمرهم . { كذلك كذب الذين من قبلهم } ، أي : كما كذب هؤلاء الكفار بالقرآن كذلك كذب الذين من قبلهم من كفار الأمم الخالية ، { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } ، آخر أمر المشركين بالهلاك .
ثم انتقلت السورة الكريمة من توبيخهم على كذبهم وجحودهم ، إلى توبيخهم على جهلهم وغباوتهم فقال - تعالى - : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ . . . } .
أى : أن هؤلاء الأشقياء لم يكتفوا بما قالوه في شأن القرآن الكريم من أقاويل فاسدة ، بل هرولوا إلى تكذيب ما فيه من هدايات سامية ، وآداب عالية ، وأخبار صادقة ، بدون فهم أن تدبر ، وبدون انتظار لتفسير معانيه وأخباره التي لم يهتدوا إلى معرفتها بعد .
قال صاحب الكشاف قوله { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } أى : بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه ، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم ، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم كالناشئ على التقليد من الحشوية ، إذا أحسن بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه ، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة أنكرها في أول وهلة ، واشمأز منها قبل أن يحسن إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد ، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه ، وفساد ما عداه من المذاهب . .
فإن قلت : فما معنى التوقع في قوله : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } قلت : معناه أنهم كذبوه به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل ، تقليدا للآباء ، وكذبوه بعد التدبر تمردا ، وعنادا فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم .
ويجوز أن يكون معنى { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ولم يأتهم بعد تأويلما فيه من الإِخبار بالغيوب ، يعني أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ، ومن جهة ما فيه من الإِخبار بالغيوب ، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإِعجاز ، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه .
وقال الآلوسى : وعبر - سبحانه - بقوله : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } دون أن يقال . بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحوه للإِيذان بكمال جهلهم به ، وأنهم لم يعلموه إلا بعنون عدم العلم به ، وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه ، لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعلية ما في حيز الصلة له ، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما ، إلا أنه عدل منه إلى ما في النظم الكريم لأنه أبلغ .
ونفى إتيان التأويل بكلمة { لما } الدالة على توقع منفيها بعد نفي الإِحاطة بعلمة بكلمة " لم " لتأكيد الذم ، وتشديد التشنيع ، فإن الشناعة في تكذيب الشيء ، قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل عمله مطلقا .
وقوله { كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين } تهديد لهم ووعيد على التمادي في العناد .
أى : كما كذب المشركون نبيهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - عن جهل وجحود : كذب الذين من قبلهم أنبياءهم ، كقوم نوح وعاد وثمود ، فكانت نتيجة هذا التكذيب أن أخذهم الله - تعالى - أخذ غزيز مقتدر .
قال - تعالى - : ( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .
ويضرب السياق عن المضي في الجدل بعد هذا التحدي ، ليقرر أنهم لا يتبعون إلا الظن ، فهم يحكمون على مالم يعلموه . والحكم يجب أن يسبقه العلم ، وألا يعتمد على مجرد الهوى أو مجرد الظن . والذي حكموا عليه هنا هو الوحي بالقرآن وصدق ما فيه من الوعد والوعيد . لقد كذبوا بهذا وليس لديهم من علم يقوم عليه التكذيب ، ولما يأتهم تأويله الواقعي بوقوعه :
( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، ولما يأتهم تأويله ) . .
شأنهم في هذا شأن المكذبين من قبلهم ، الظالمين المشركين بربهم . فليتأمل المتأمل كيف كان مصير الأولين ليعرف حقيقة مصير الآخرين :
( كذلك كذب الذين من قبلهم ، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) . .
وقوله : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } يقول : بل كذب هؤلاء بالقرآن ، ولم يفهموه ولا عرفوه ، { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } أي : ولم يُحصّلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفهًا { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم السالفة { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } أي : فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلمًا وعلوا ، وكفرا وعنادًا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم .
{ بل كذّبوا } بل سارعوا إلى التكذيب . { بما لم يحيطوا بعلمه } بالقرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه ، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علما من ذكر البعث والجزاء وسائر ما يخالف دينهم . { ولما يأتهم تأويله } ولم يقفوا بعد على تأويله ولم تبلغ أذهانهم معانيه ، أو ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب ، والمعنى أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى ثم إنهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفحصوا معناه ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرر عليهم التحدي فزادوا قواهم في معارضته فتضاءلت دونها ، أو لما شاهدوا وقوع ما أخبر به طبقا لإخباره مرارا فلم يقلعوا عن التكذيب تمردا وعنادا . { كذلك كذّب الذين من قبلهم } أنبياءهم . { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.