ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا القرآن فقال : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله } واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوها :
الوجه الأول : أنهم كلما سمعوا شيئا من القصص قالوا : ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين . ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها : فأولها : بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ، ونقل أهله من العز إلى الذل ومن الذل إلى العز وذلك يدل على قدرة كاملة . وثانيها : أنها تدل على العبرة من حيث إن الإنسان يعرف بها أن الدنيا لا تبقى ، فنهاية كل متحرك سكون ، وغاية كل متكون أن لا يكون ، فيرفع قلبه عن حب الدنيا وتقوى رغبته في طلب الآخرة ، كما قال : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب } وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ ، دل ذلك على أنه بوحي من الله تعالى ، كما قال في سورة الشعراء بعد أن ذكر القصص { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين }
والوجه الثاني : أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئا ساء ظنهم بالقرآن . وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات }
والوجه الثالث : أنهم رأوا أن القرآن يظهر شيئا فشيئا ، فصار ذلك سببا للطعن الرديء فقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { كذلك لنثبت به فؤادك } وقد شرحنا هذا الجواب في سورة الفرقان .
والوجه الرابع : أن القرآن مملوء من إثبات الحشر والنشر . والقوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ، ولم يتقرر ذلك في قلوبهم ، فظنوا أن محمدا عليه السلام إنما يذكر ذلك على سبيل الكذب ، والله تعالى بين صحة القول بالمعاد بالدلائل القاهرة الكثيرة .
الوجه الخامس : أن القرآن مملوء من الأمر بالصلاة والزكاة وسائر العبادات ، والقوم كانوا يقولون إله العالمين غني عنا وعن طاعتنا ، وإنه تعالى أجل من أن يأمر بشيء لا فائدة فيه ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } وبقوله : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } وبالجملة فشبهات الكفار كثيرة ، فهم لما رأوا القرآن مشتملا على أمور ما عرفوا حقيقتها ولم يطلعوا على وجه الحكمة فيها لا جرم كذبوا بالقرآن ، والحاصل أن القوم ما كانوا يعرفون أسرار الإلهيات ، وكانوا يجرون الأمور على الأحوال المألوفة في عالم المحسوسات . وما كانوا يطلبون حكمها ولا وجوه تأويلاتها ، فلا جرم وقعوا في التكذيب والجهل ، فقوله : { بل كذبوا لما لم يحيطوا بعلمه } إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء ، وقوله : { ولما يأتهم تأويله } إشارة إلى عدم جدهم واجتهادهم في طلب تلك الأسرار .
ثم قال : { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } والمراد أنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة ، فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم ، ومن الناس من قال المراد منه عذاب الاستئصال وهو الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الرسل من ضروب العذاب في الدنيا ، قال أهل التحقيق قوله : { ولما يأتهم تأويله } يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة ، لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة ، فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق ، أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل على التأويل فيصير ذلك نورا على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.