فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (39)

{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } فأضرب عن الكلام الأوّل ، وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن ، قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه ، وما اشتمل عليه ، وهكذا صنع من تصلب في التقليد ، ولم يبال بما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف ، بل يردّه بمجرد كونه لم يوافق هواه ، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه ، ويعلم مبناه ، كما تراه عياناً وتعلمه وجداناً .

والحاصل أن من كذب بالحجة النيرة ، والبرهان الواضح ، قبل أن يحيط بعلمه ، فهو لم يتسمك بشيء في هذا التكذيب ، إلا مجرد كونه جاهلاً لما كذب به غير عالم به ، فكان بهذا التكذيب منادياً على نفسه بالجهل بأعلى صوت ، ومسجلاً بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل ، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء :

ما يبلغ الأعداء من جاهل *** ما يبلغ الجاهل من نفسه

قوله : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } معطوف على : { لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } أي : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، وبما لم يأتهم تأويله ، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به ، ولا بلغته عقولهم . والمعنى : أن التكذيب منهم وقع قبل الإحاطة بعلمه ، وقبل أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدّمين ، والأمم السابقين ، ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها ، أو قبل أن يفهموه حق الفهم ، وتتعقله عقولهم ، فإنهم لو تدبروه كلية التدبر لفهموه كما ينبغي ، وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله ، وعلى هذا فمعنى تأويله ما يؤول إليه لمن تدبره من المعاني الرشيقة ، واللطائف الأنيقة ، وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأوّل : { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه ، فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه ، وقبل أن يأتيهم تأويله : { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين } من الأمم السالفة من سوء العاقبة ، بالخسف والمسخ ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم ، كما حكى ذلك القرآن عنهم ، واشتملت عليه كتب الله المنزّلة عليهم .

/خ41