فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (39)

ثم إن الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا بالقرآن وآتي به عقب هذا التحدي البالغ فقال { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } فاضرب عن الكلام الأول وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا على تكذيب القرآن قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه وما اشتمل عليه ، وهكذا صنع من تصلب في التقليد ولم يبال بما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الأنصاف بل يرده بمجرد كونه لم يوافق هواه ، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه ويعلم مبناه كما تراه عيانا ، وتعلمه وجدانا .

والحاصل إن من كذب بالحجة النيرة والبرهان الواضح قبل أن يحيط بعلمه فهو لم يتمسك بشيء في هذا التكذيب المجرد كونه جاهلا إنما كذب به غير عالم به ، فكان بهذا التكذيب مناديا على نفسه بالجهل بأعلى صوته ومسجلا بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء .

ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه .

{ ولما يأتيهم تأويله } أي بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتيهم تأويله ، أي كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به ولا بلغته عقولهم ولا وصلت أذهانهم معانيه الرائقة المنبئة عن علو شأنه .

والمعنى أن التكذيب وقع منهم قبل الإحاطة بعلمه ، وقبل أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدمين والأمم السابقين ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها أو قبل أن يفهموه حق الفهم وتتعقله عقولهم فإنهم لو تدبروه كل التدبر لفهموه كما ينبغي وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله .

وعلى هذا فمعنى تأويله ما يئول إليه لمن تدبره من المعاني الرشيقة واللطائف الأنيقة وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأول والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم ومن جهة المعنى من حيث الإخبار بالغيب .

{ كذلك } أي مثل ذلك التكذيب { كذب الذين من قبلهم } من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه وقبل أن يأتيهم تأويله { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } من الأمم السالفة من سوء العاقبة بالخسف والمسخ ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم ، كما حكى ذلك القرآن عنهم واشتملت عليه كتب الله المنزلة عليهم ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل فرد من الناس والجملة في قوة فأهلكناهم .