{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } قيل : هو إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشىء عن عدم علمهم بكنه أمره والاطلاع على شأنه الجليل فما عبارة عن القرآن وهو المروى عن الحسن وعليه محققو المفسرن ، وقيل : هي عبارة عما ذكر فيه مما يخالف دينهم كالتوحيد والبعث والجزاء وليس بذاك سواء كانت الباء للتعدية كما هو المتبادر أم للسببية ، والمراد أنهم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفاً ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن يؤتى بسورة مثله ، والتعبير عنه بهذا العنوان دون أن يقال : بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحوه للإيذان بكمال جهلهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعلية ما في حيز الصلة له ، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علماً إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأنه أبلغ { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } عطف على الصلة أو حال من الموصول أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعية والعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوح برهانه ، فالتأويل نوع من التفسير ، والإتيان مجاز عن المعرفة والوقوف ، ولعل اختياره للإشعار بأن تلك المعاني متوجهة إلى الأذهان منساقة إلها بنفسها ، وجوز أن يراد بالتأويل وقوع مدلوله وهو عاقبته وما يؤول إليه وهو المعنى الحققي عند بعض فإتيانه حينئذٍ مجاز عن تبينه وانكشافه ، أي ولم يتبين لهم إلى الآن تأويل ما فيه من الأخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب . والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم . والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفكروا في معناه أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة ، ونفى إتيان التأويل بكلمة { لَّمّاً } الدالة على توقع منفيها بعد نفي الإحاطة بعلمه بكلمة لم لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة في تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقاً .
وادعى بعضهم أن الإضراب عن التكذيب عناداً المدلول عليه بقوله سبحانه : { قُلْ فَأْتُواْ } [ يونس : 38 ] الخ فإن الإلزام إنما يأتي بعد ظهور العجز ، ومعنى هذا الإضراب ذمهم على التقلد وترك النظر مع التمكن منه وهو أدخل في الذم من العناد من وجه ، وذلك لأن التقليد اعتراف من صاحبه بالقصور في الفطنة ثم لا يعذر فيه فلا يرتضي ذو عقل أن يقلد رجلاً مثله من غير تقدم عله بفطنة وتجربة وأما العناد فقد يحمده بعض النفوس الأبية بل في أشعارهم ما يدل على أنهم مفتخرون بذلك كقولهم
: فعاند من تطيق له عناداً . . . ولا رد أن العناد لما كان بعد العلم كان أدخل في الذم فلا نسلم أنه أدخل فيه من التقليد بل من الجهل قبل التدبر دون اقتران التقليد به ، وإن سلم فهذا أيضاً أدخل من وجه ، وقد جعل مصب الإنكار على جمعهم بن الأمرين والجمع على كل حال أدخل من التفرد بواحد صح الإضراب فكأنه قيل : دع تحديهم وإلزامهم فإنهم لا يستأهلون الخطاب لأنهم مقلدون متهافتون في الأمر لا عن خبر وحجى . وقد ذكر الزمخشري في هذا المقام ثلاثة أوجه ، الوجه الأول أن التقدير أم كذبوا وقالوا هو مفترى بعد العلم بإعجازه عناداً بل كذبوا به قبل أن يأتيهم العلم بوجه إعجازه أيضاً فهم مستمرون على التكذيب في الحالين مذمومون به موسومون برذيلتي التقليد والعناد جامعون بينهما بالنسبة إلى وقتين ، ووجه ذلك بأن { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } صريح في تكذيبهم قبل العلم بوجه الإعجاز { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } يدل على امتداد هذا التكذيب إلى مجىء التأويل المنتظر بالنسبة إلى تكذيبهم قبل لا بالنسبة إلى زمان الإخبار فإن التأويل أيضاً واقع ، وحينئذٍ إما أن يكون التكذيب قد زال فلا يتوجه عليهم الذم بالتكذيب الأول وإما أن يكون مستمراً وهو الواجب ليصح كونه وارداً ذماً لهم بالتسرع إلى التكذب الذي هو منطوق النص فيجب أن يكون العطف على قوله سبحانه : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } [ يونس : 38 ] ويكون ذلك لبيان أنهم كذبوا عن علم وهذا لبيان تكذيبهم قبله أيضاً ويكون الجهتان منظورتين وأنهم مذمومون فيهما .
والحاصل أن { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } [ يونس : 38 ] لا مرية فيه أنه تكذيب بعد العلم لمكان الأمر بعده . لكن لما جعل التوقع المفاد بلما لعلم الإعجاز لزم أن يكون بالنسبة إلى حالهم الأولى وهو التكذيب قبل العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقع زواله بالعلم ويكون معنى المبالغة في { لَّمّاً } الإشعار باستغراق الوقت للتكذيب إلى زمان التأويل المنتظر الواقع الذي كذبوا فيه عناداً وبغياً .
الوجه الثاني : حمل التأويل على المعنى الثاني الذي ذكرناه . والمعنى بل سارعوا إلى التكذيب قبل الإحاطة بعلمه ليعرفوا إعجاز نظمه ، وقيل : إتيان التأويل المنتظر وهو ما يؤول إليه من الصدق في الإخبار بالمغيبات ، والمقصود من هذا ذمهم بالتسارع إلى التكذيب من الوجهين لكن لما كان مع الوجهين علم ما يتضمنه لو يدبروا لم يكن فيه شيء منتظر والثاني لما لم يكن كذلك كان فه أمر منتظر ، وأتى بحرف التوقع دليلاً عن أن هذا المنتظر كائن وسيظهر أنهم مبطلون فيه أيضاً كالأول ولا نظر إلى أنهم مذمومون حالتي العناد والتقليد بل المقصود كمال إظهار الإلزام بأنه مفروغ عنه مع أمثالهم للتهافت المذكور .
الوجه الثالث أن { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } [ يونس : 38 ] ذم لطائفة كذبوا عن علم وهذا ذم لأخرى كذبت عن شك ولما وجد فيما بينهم القسمات أسند الكل إلى الكل وليس بدعا في القرآن ، والغرض من الاضراب تعميم التكذيب وانه كان الواجب على الشاك التوقف لا التسرع إلى التكذيب ومعنى التوقع أنه سيزل شكهم فسيعلم بعضهم ويبقى بعض على ما هو عليه ، والآية ساكتة عن التفصيل ناطقة بزوال الشك ولا خفاء أن الشاك ينتظر وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يتوقع زوال شكهم انتهى ، ولا يخفى أن ما نقلنا أولاً أولى بالقبول عند ذوي العقول .
وأورد على دعوى أن { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } [ يونس : 38 ] تكذيب بعد العلم أنها ناشئة من عدم العلم وما سيق لاثباتها في حيز المنع فإن الإلزام بعد التحدي وذلك القول قبله ، وكونه مسبوقاً بالتحدي الوارد في سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية .
نعم ربما يقال في الاستدلال على كون ذلك القول بعد العلم بوقوع حكايته في النظم الكريم بعد حكاية الإشارة إلى مضمونه بقوله تعالى : { قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ } [ يونس : 15 ] ورده بما سمعته هناك حسبما قرره الجمهور ، وبيان ذلك أنهم نقل عنهم أولاً الإشارة إلى نسبة الافتراء إلى سيد الصادقين صلى الله عليه وسلم ثم نقل عنهم التصريح بذلك ، والظاهر أن الأمر حسبما نقل لكثرة وقوع التصريح بعد الإشارة ، وقد تخلل ردماً أشاروا إليه في البين فيحتمل أنهم عقلوه وعلموا الحق لكنهم لم يقروا به عناداً وبغياً فصرحوا بما صرحوا فيكون ذلك منهم بعد العلم ولترقيهم من الإشارة إلى التصريح ترقي في الزامهم فإن هذا التحدي أظهر في الإلزام مما تقدم كما هو ظاهر ، لكن للمناقشة في هذا مجال ، ويخطر بالبال أنه يحتمل أن يكون الاضراب عن ذمهم بالتكذيب بالقرآن إلى ذمهم بالمسارعة إلى تكذيب ما لم يحيطوا به علماً وأن الوقوف على العلم به متوقع سواء كان قرآنا أو غيره فما عامة للأمرين ويدخل القرآن في العموم دخولاً أولياً ولعله أولى مما قيل : إنه اضراب عن مقدر وينبغي أن تسمى بل هذه فصيحة فإن المعنى فما أجابوا أو ما قدروا أن يأتوا بل كذبوا الخ { كذلك } أي مثل تكذيبهم من غير تدبر وتأمل { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي فعلوا التكذيب أو كذبوا أنبياءهم فيما أتوا به { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين } خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون عاماً لكل من يصلح له ، والمراد بالظالمين الذين من قبلهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بكون التكذيب ظلماً وبعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة وبدخول هؤلاء الذين حكى عنهم ما حكى في زمرتهم جرماً ووعيداً دخولاً أولياً ، والفاء لترتيب ما بعدها على محذوف ينساق إليه الكلام أي فاهلكناهم فانظر الخ ، وكيف في موضع نصب خبر كان ، وقد يتصرف فيها فتوضح موضع المصدر وهو كيفية ويخلع عنها معنى الاستفهام بالكلية ، وهي هنا تحتمل ذلك ، وكذا قول البخاري رضي الله تعالى عنه : كيف كان بدء الوحي كما قال السمين ؛ ونقل إنه أن فعل النظر معلق عن العمل لمكان كيف لأنهم عاملوها في كل موضع معاملة الاستفهام المحض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.