اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (39)

فقال : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } يعني : كذَّبُوا بالقرآن ، ولم يحيطوا بعلمه .

قوله : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } : جملةٌ حاليةٌ من الموصول ، أي : سارعُوا إلى تكذيبه حال عدم إتيان التأويل ، قال الزمخشري : " فإن قلت : ما معنى التوقُّع في قوله - تعالى - : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ؟ قلت : معناه : كذَّبُوا به على البديهة ، قبل التَّدبر ، ومعرفة التأويل " ، ثمَّ قال أيضاً : " ويجُوزُ أن يكون المعنى : ولم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب ، أي : عاقبته حتى يتبيَّن لهم : أكذبٌ هو ، أم صدقٌ " . انتهى .

وفي وضعه " لَمْ " موضع " لمَّا " نظرٌ لما عرفت ما بينهما من الفرق ، ونُفيتْ جملةُ الإحاطة ب " لم " ، وجملة إتيانِ التأويل ب " لمَّا " ؛ لأنَّ " لَمْ " للنَّفْي " المطلق على الصَّحيح ، و " لمَّا " لنفي الفعل المُتَّصل بزمنِ الحالِ ، فالمعنى : أنَّ عدمَ التَّأويلِ متَّصل بزمن الإخبار .

فصل

قيل المعنى : بل كذَّبُوا بالقرآن { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } أي : عاقبةُ ما وعد الله في القرآن ؛ أنَّه يئول إليه أمرهم من العقوبة ، يريد : أنَّهم لم يعلمُوا ما يئول إليه عاقبة أمرهم .

وقيل : كُلَّما سمعُوا شيئاً من القصص ، قالوا : ليس في هذا الكتاب ، إلاَّ أساطير الأولين ، ولم يعرفُوا أنَّ المقصود منها ، ليس هو نفس الحكاية ، بل أمور أخرى ، وهي : بيانُ قدرة الله - تعالى - على التصرُّفِ في هذا العالم ، ونقل أهله من العزِّ إلى الذُّل ، ومن الذُّلِّ إلى العِزِّ ، وذلك دليلٌ على القدرة الكاملة ، وأيضاً : تدلُّ على أنَّ الدنيا فانيةٌ غير باقية ؛ كما قال - تعالى - : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى } [ يوسف : 111 ] ، وأيضاً فهي دلالة على العجز ؛ لكون النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يتعلَّم ، ولم يتتلمذ لأحدٍ ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه وحيٌ من الله - تعالى - ، كما قال في الشعراء بعد ذكر القصص : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } [ الشعراء : 192-194 ] ، وقيل : إنَّهم كانُوا كُلَّما سمعوا حروف التَّهجِّي في أوائل السور ، ولم يفهموها ، ساء ظنُّهم بالقرآن ؛ فأجاب - تعالى - بقوله : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] ، وقيل : إنَّهم لمَّا سمعُوا القرآن ينزل شيئاً فشيئاً ، ساء ظنهم ، وقالوا : لو أنزل عليه القرآن جملة واحدة ؛ فأجاب - تعالى - : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [ الفرقان : 32 ] ، وقيل : إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً من إثبات الحشر والنشر ، وكانوا ألفُوا الحياة ، فاستبعدُوا حصول الحياةِ بعد الموت ، فكذَّبُوا بالقرآن ، وقيل : إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً بالصَّلاة ، والزكاة ، والعبادات ، قال القوم : إن إله العالمين غنيٌّ عنَّا ، وعن طاعتنا ، وأنَّه - تعالى - أجلُّ من أن يأمرنا بشيء لا فائدة فيه ، فأجاب الله عنه ، بقوله : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] ، وبالجملة : فشبهات الكفارة كثيرة ؛ فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمورٍ عرفوا حقيقتها ، ولم يطلعُوا على وجه الحكمة فيها ، لا جرم كذَّبوا بالقرآن .

قوله : " كذلِكَ " : نعتٌ لمصدر محذوفٍ ، أي : مثل ذلك التَّكذيب ، كذَّب الذين من قبلهم ، أي : قبل النظر ، والتدبُّر .

وقوله : { فانظر كَيْفَ كَانَ } كَيْفَ خبر ل " كَانَ " ، والاستفهام معلِّقٌ للنَّظر .

قال ابن عطيَّة : " قال الزجاج : " كَيْفَ " في موضع نصبٍ على خبر " كان " ، ولا يجوز أن يعمل فيها " انظر " ؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه ، هذا قانونُ النحويِّين ؛ لأنَّهم عاملُوا " كَيْفَ " في كلِّ مكان معاملة الاستفهام المحض ، في قولك " كيف زيد " ، ول " كيف " تصرفاتٌ أخرى ؛ فتحلُّ محلَّ المصدر الذي هو " كيفيَّة " ، وتخلعُ معنى الاستفهام ، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكون منها . ومن تصرُّفاتها قولهم : " كُنْ كيفَ شِئْتَ " ، وانظر قول البخاريِّ : " كيف كان بدءُ الوحي ؛ فإنه لم يستفهم " . انتهى .

فقول الزجاج : لا يجوز أن تعمل " انظر " في " كيف " ، يعني : لا تتسلَّط عليها ، ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحب عليها حكمُ الاستفهام ، وهكذا سبيلُ كُلِّ تعليقٍ .

قال أبو حيَّان : " وقولُ ابن عطيَّة{[18463]} : هذا قانونُ النَّحويين . . إلى آخره ، ليس كما ذكر ، بل ل " كيف " معنيان :

أحدهما : الاستفهامُ المحض ، وهو سؤال عن الهيئة ، إلاَّ أن يعلَّق عنها العامل ، فمعناها معنى الأسماء التي يستفهمُ بها إذا علِّق عنها العاملُ .

والثاني : الشرط ؛ كقول العرب : " كيف تكونُ أكونُ " ، وقوله : ول " كيف " تصرفات إلى آخرة ليس " كيف " تحلُّ محلَّ المصدر ، ولا لفظ " كيفية " هو مصدرٌ ؛ إنَّما ذلك نسبةٌ إلى " كَيْف " ، وقوله : " ويحتمل أن يكون هذا الموضعُ منها ، ومن تصرُّفاتهم قولهم : كن كيْفَ شِئْتَ " لا يحتمل أن يكون منها ؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ لها المعنى الذي ذكر ، من كون " كيف " بمعنى : " كيفية " ، وادِّعاءُ مصدرية " كيفية " .

وأمَّا " كُنْ كيف شِئْتَ " : ف " كَيْفَ " ليست بمعنى : " كيفية " ؛ وإنَّما هي شرطيَّةٌ ، وهو المعنى الثاني الذي لها ، وجوابها محذوفٌ ، التقدير : كيف شئت فكن ؛ كما تقول : " قُمْ مَتَى شِئْتَ " ، ف " متى " اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه " قُمْ " ، والجواب محذوف ، تقديره : متى شئت فقم ، وحذف الجوابُ ؛ لدلالةِ ما قبله عليه ؛ كقولهم : " اضربْ زَيْداً إنْ أسَاءَ إليْكَ " ، التقدير : إن أساءَ إليك فاضْرِبْه ، وحذف " فاضْرِبه " لدلالة " اضرِبْ " المتقدِّم عليه ، وأمَّا قول البخاريُّ : " كيف كَانَ بَدْءُ الوحي " ؛ فهو استفهامٌ محضٌ :

إمَّا على سبيل الحكاية ؛ كأنَّ سَائِلاً سأله ، فقال : كيف كان بدءُ الوحي .

وإمَّا أن يكون من قوله هو ، كأنَّه سَألَ نفسه : كيف كان بدء الوحي ، فأجاب بالحديث الذي فيه كيفيَّة ذلك " .

وقوله : " الظالمين " من وضع الظَّاهر موضع المُضْمَر ، ويجوز : أن يراد به ضميرُ من عَادَ عليه ضمير " بَلْ كذَّبُوا " ، وأن يُرادَ به { الذين مِن قَبْلِهِمْ } .

ومعنى الآية : أنَّهم طلبُوا الدُّنْيَا ، وتركُوا الآخرة ، فبقُوا في الخسارِ العظيمِ ، وقيل : المراد : عذاب الاستئصال الذي نزل بالأممِ السَّابقة .


[18463]:ينظر: المحرر الوجيز 3/121.