قوله تعالى : { وإذا فعلوا فاحشةً } قال ابن عباس ومجاهد : هي طوافهم بالبيت عراة ، وقال عطاء : الشرك ، والفاحشة : اسم لكل فعل قبيح بلغ النهاية في القبح .
قوله تعالى : { قالوا وجدنا عليها آباءنا } ، وفيه إضمار معناه : وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا . وإذا قيل : ومن أين أخذ آباؤكم به ؟ قالوا { والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } .
ثم حكى القرآن بعض القبائح التي كان يفعلها المشركون ، ورد عل أكاذيبهم بما يدحضها فقال : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً . . . } .
الفاحشة : هى كل فعل قبيح يتنافى مع تعاليم الشريعة مثل الإشراك بالله ، والطواف بالبيت الحرام بدون لباس يستر العورة .
قال الإمام ابن كثير : " كانت العرب - ما عدا قريشا - لا يطوفون بالبيت الحرام في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في لك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها ، وكانت قريش - وهم الحمس - يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسى ثوبا طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ، ومن لم يجد ثوبا جديداً ولا أعاره أحمسى ثوبا طاف عريانا ، وربما كانت المرأة تطوف عريانة ، فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر ، وأكثر ما كان النساء يطفن عراة ليلا ، وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم ، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله فأنكر الله عليهم ذلك وقال : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا } .
فالآية الكريمة تحكى عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يرتكبون القبائح التي نهى الله عنها كالطواف بالكعبة عرايا ، وكالإشراك بالله ، ثم بعد ذلك يحتجون بأنهم قد وجدوا آباءهم كذلك يفعلون ، وبأن الله قد أمرهم بذلكن ولا شك أن احتجاجهم هذا من الأكاذيب التي ما أنزل الله بها من سلطان ، ولذا عاجلهم القرآن بالرد المفحم ، فقال : { قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
أى : قل يا محمد لهؤلاء المفترين على الله الكذب : إن كلامكم هذا يناقضه العقل والنقل . أما أن العقل يناقضه ويكذبه . فلأنه لا خلاف بيننا وبينكم في أن ما تفعلونه هو من أقبح القبائح بدليل أن بعضكم قد تنزه عن فعله ، وأما أن النقل يناقضه ويكذبه فلأنه لم يثبت عن طريق الوحى أن الله أمر بهذا ، بل الثابت أن الله لا يأمر به ، لأن الفاحشة في ذاتها تجاوز لحدود الله ، وانتهاك لحرماته ، فهل من المعقول أن يأمر الله بانتهاك حدوده وحرماته ؟ والاستفهام في قوله - تعالى - : { أَتَقُولُونَ } للإنكار والتوبيخ وفيه معنى النهى .
وإنها لحقيقة . . أن الشيطان ولي الذين لا يؤمنون ، كما أن الله هو ولي المؤمنين . . وهي حقيقة رهيبة ، ولها نتائجها الخطيرة . . وهي تذكر هكذا مطلقة ؛ ثم يواجه بها المشركون كحالة واقعة ؛ فنرى كيف تكون ولاية الشيطان ؛ وكيف تفعل في تصورات الناس وحياتهم . . وهذا نموذج منها :
( وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) . .
وذلك ما كان يفعله ويقول به مشركو العرب ؛ وهم يزاولون فاحشة التعري في الطواف ببيت الله الحرام - وفيهم النساء ! - ثم يزعمون أن الله أمرهم بها . فقد كان أمر آباءهم بها ففعلوها ، ثم هم ورثوها عن آبائهم ففعلوها !
وهم - على شركهم - لم يكونوا يتبجحون تبجح الجاهليات الحديثة التي تقول : ما للدين وشؤون الحياة ؟ وتزعم أنها هي صاحبة الحق في اتخاذ الأوضاع والشرائع والقيم والموازين والعادات والتقاليد من دون الله ! إنما كانوا يفترون الفرية ، ويشرعون الشريعة ، ثم يقولون : الله أمرنا بها ! وقد تكون هذه خطة ألأم وأخبث ، لأنها تخدع الذين في قلوبهم بقية من عاطفة دينية ؛ فتوهمهم أن هذه الشريعة من عند الله . . ولكنها على كل حال أقل تبجحاً ممن يزعم أن له الحق في التشريع للناس بما يراه أصلح لأحوالهم من دون الله !
والله - سبحانه - يأمر نبيه [ ص ] أن يواجههم بالتكذيب لهذا الافتراء على الله ؛ وبتقرير طبيعة شرع الله وكراهته للفاحشة ، فليس من شأنه سبحانه أن يأمر بها :
( قل : إن الله لا يأمر بالفحشاء . أتقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ) :
إن الله لا يأمر بالفحشاء إطلاقاً - والفاحشة : كل ما يفحش أي يتجاوز الحد - والعري من هذه الفاحشة ، فالله لا يأمر به . وكيف يأمر الله بالاعتداء على حدوده ؟ والمخالفة عن أمره بالستر والحياء والتقوى ؟ ومن الذي أعلمهم بأمر الله ذاك ؟ إن أوامر الله وشرائعه ليست بالادعاء . إن أوامره وشرائعه واردة في كتبه على رسله . وليس هناك مصدر آخر يعلم منه قول الله وشرعه . وليس لإنسان أن يزعم عن أمر أنه من شريعة الله ، إلا أن يستند إلى كتاب الله وإلى تبليغ رسول الله . فالعلم المستيقن بكلام الله هو الذي يستند إليه من يقول في دين الله . . وإلا فأي فوضى يمكن أن تكون إذا قدم كل إنسان هواه ، وهو يزعم أنه دين الله ! !
إن الجاهلية هي الجاهلية . وهي دائماً تحتفظ بخصائصها الأصيلة . وفي كل مرة يرتد الناس إلى الجاهلية يقولون كلاماً متشابهاً ؛ وتسود فيهم تصورات متشابهة ، على تباعد الزمان والمكان . . وفي هذه الجاهلية التي نعيش فيها اليوم لا يفتأ يطلع علينا كاذب مفتر يقول ما يمليه عليه هواه ثم يقول : شريعة الله ! ولا يفتأ يطلع علينا متبجح وقح ينكر أوامر الدين ونواهيه المنصوص عليها ، وهو يقول : إن الدين لا يمكن أن يكون كذلك ! إن الدين لا يمكن أن يأمر بهذا ! إن الدين لا يمكن أن ينهى عن ذاك ، . . وحجته هي هواه ! ! !
قال مجاهد : كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ، يقولون : نطوف كما ولدتنا أمهاتنا . فتضع المرأة على فرجها النسعة ، أو الشيء وتقول :
اليوم يبدُو بعضُه أو كلّه *** وما بَدا منه فلا أحلّهُ
فأنزل الله [ تعالى ]{[11647]} { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } الآية . {[11648]}
قلت : كانت العرب - ما عدا قريشًا - لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها ، وكانت قريش - وهم الحُمْس - يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسي ثوبًا طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ، فمن لم يجد ثوبًا جديدًا ولا أعاره أحمسي ثوبًا ، طاف عريانًا . وربما كانت امرأة فتطوف عريانة ، فتجعل على فرجها شيئًا يستره بعض الشيء وتقول :
اليوم يبدُو بعضُه أو كلّه *** وما بدَا منه فلا أحلّهُ{[11649]}
وأكثر ما كان النساء يطفن [ عراة ]{[11650]} بالليل ، وكان هذا شيئًا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ، واتبعوا فيه آباءهم ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع ، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك ، فقال : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } فقال تعالى ردًا عليهم : { قُلْ } أي : قل يا محمد لمن ادعى ذلك : { إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } أي : هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة ، والله لا يأمر بمثل ذلك { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته .
{ وإذا فعلوا فاحشة } فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم وكشف العورة في الطواف . { قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } اعتذروا واحتجوا بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه وتعالى ، فأعرض عن الأول لظهور فساده ورد الثاني بقوله : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال ، والحث على مكارم الخصال . ولا دلالة عليه على أن أقبح الفعل بمعنى ترتب الذم عليه آجلا عقلي ، فإن المراد بالفاحشة ما ينفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل المستقيم . وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها : لم فعلتم ؟ فقالوا : وجدنا عليها آباءنا . فقيل ومن أين أخذ آباؤكم ؟ فقالوا : الله أمرنا بها . وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقا . { أتقولون على الله ما لا تعلمون } إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله تعالى .