اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَيۡهَآ ءَابَآءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (28)

هذه الجملة الشَّرْطيَّة لا محلَّ لها من الإعراب ؛ لأنَّها استئنافيَّة وهو الظَّاهِرُ وجوَّزَ ابْنُ عَطِيَّة{[16014]} أن تكون داخِلَةً في حيِّز الصِّلَةِ لعطفها عليها .

قال ابْنُ عطيَّة{[16015]} ليقع التوبيخ بصفة قَوْمٍ قد فعلوا أمثالاً للمؤمنين إذا شبه فعلهم فعل الممثل بهم .

قوله : " وَجَدْنَا " يحتمل أنْ يكون العلمية أي علمنا طريقهم أنها هذه ، ويحتمل أن يكون بمعنى : لَقِينَا ، فيكون مفعولاً ثانياً على الأول وحالاً على الثاني .

فصل في المراد من الآية .

قوله { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } قال ابنُ عبَّاسٍ ، ومجاهدٌ : هي طوافهم بالبيت عراة{[16016]} .

وقال عطاءٌ : الشِّرك .

وقيل : ما كَانُوا يحرمونه من البحيرةِ والسَّائِبَةِ وغيرها ، وهو اسم لكلِّ فعل قبيح بلغ النَّهايةَ في القُبْحِ ، فالأولى أن يحكم بالتعميم ، وفيه إضمارٌ مَعْنَاهُ : وإذا فعلوا فَاحِشَةً فنهوا عنها قالوا : وجدنا عليها آباءنا .

قيل : ومن أينَ أخذ آباؤكم ؟ قالوا : اللَّهُ أمَرَنَا بها .

واعلم أنَّهُ ليس المرادُ أنَّ القومَ كَانُوا يعتقدونَ أن تلك الأفعال فواحش ثم يزعمون أنَّ الله أمرهم بها ، فإنَّ ذلك لا يقولهُ عاقلٌ ، بل المراد أن تلك الأشياء في أنفسها فواحش ، والقوم كَانُوا يعتقدون أنها طاعات والله أمرهم بها ثُمَّ إنَّهُ تعالى حكى عنهم أنَّهُم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحِشِ بأمرين :

أحدهما : { وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا } .

والثاني : { والله أَمَرَنَا بِهَا } .

فأمَّا الحُجَّةُ الأولى فما ذكر الله عنها جواباً لأنَّها محض التَّقْلِيد ، وهو طريقة فاسدَةٌ في عقل كلِّ أحد ؛ لأنَّ التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التَّقلِيدُ حقاً للزِمَ الحكمُ بأنَّ كُلَّ من المتناقضين حقّاً وذلك باطلٌ ، ولما كان فساد هذا الطَّريق ظاهراً جلياً لم يذكر الجواب عنه .

وأمّا الحجَّةُ الثَّانِية وهي قولهم : { والله أَمَرَنَا بِهَا } فقد أجَابَ اللَّهُ عنها بقوله : { قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } والمعنى أنَّه لما بين على لِسانِ الأنْبِيَاءِ والرُّسُلِ كون هذه الأفعال منكرة قبيحة ، فكيف يمكن القول بأنَّ اللَّهَ تعالى أمرنَا بِهَا .

وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء } حذف المفعول الأوَّل للعلم به أي لا يأمر أحداً أو لا يأمركم يا مُدَّعين ذلك .

فصل

قالت المعتزلَةُ : قوله { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء } إشارة إلى أنَّهُ لما كان موصوفاً في نفسه بكونه من الفحشاء ؛ امتنع أن يأمر الله به ، وهذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه فحشاً مغايراً لتعلق الأمر والنَّهْيِ بِهِ .

والجوابُ : لما ثبت بالاستقراءِ أنَّهُ تعالى لا يأمرُ إلا بما يكون مصلحة للعباد ولا ينهى إلا عمَّا يكون مفسدة لهم ، فقد صَحَّ هذا التَّعْلِيلُ .

قوله : { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } والمعنى أن قولكم : إنَّ اللَّه أمَرَكُمْ بهذه الأفعال إمَّا لأنكم سمعتم كلام اللَّهِ تعالى ابتداء من غير واسطة ، أو عرفتم ذلك بطريقِ الوحي عن الأنْبِيَاءِ .

أما الأول : فباطل بالضَّرُورةِ .

وأما الثاني : فباطل على قولكم لأنَّكُم تنكرون نبوّة الأنبياءِ على الإطلاق لأن هذه المناظرة مع كُفَّار قُرَيْشٍ ، وهم كانوا منكرين أصْلَ النُّبُوَّةِ ، وإذا كان كذلك ، فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحْكَامِ اللَّهِ تعالى ، فكان قولهم : إنَّ الله أمرنا بها قولاً على اللَّه بما لا يَعْلَمُونَ ، وإنَّهُ بَاطِلٌ .

قوله : { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } مفعول به ، وهذا مفرد في قوة الجملة ؛ لأنَّ ما لا يعلمون ممَّا يتقولونه على الله - تعالى - كلام كَثِيرٌ من قولهم : { والله أَمَرَنَا بِهَا } كتبحير البحائر وتسبيب السَّوائب ، وطوافهم بالبيت عُراةً إلى غير ذلك حذف المفعول من قوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط } .

فصل في دحض شبهة لنفاة القياس

استدلَّ بهذه الآية نفاةُ القياس ؛ لأنَّ الحكم المثبت بالقياس مظنون غير معلوم وما لا يكون معلوماً لم يجز القول به لقوله تعالى في معرض الذَّمِّ : { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقد تقدَّم جوابٌ عن مثل هذه الدلالة .


[16014]:ينظر: المحرر الوجيز 2/391.
[16015]:ينظر: المحرر الوجيز 2/391.
[16016]:أخرجه الطبري في تفسيره 5/463 عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي. وذكره السيوطي في الدر المنثور 3/143 عن ابن عباس وزاد في نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ. وذكره أيضا عن مجاهد 3/143 وزاد نسبته لابن أبي حاتم.