فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَيۡهَآ ءَابَآءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (28)

الفاحشة : ما تبالغ في فحشه وقبحه من الذنوب . قال أكثر المفسرين : هي طواف المشركين بالبيت عراة . وقيل هي الشرك ، والظاهر أنها تصدق على ما هو أعم من الأمرين جميعاً ، والمعنى : أنهم إذا فعلوا ذنباً قبيحاً متبالغاً في القبح ، اعتذروا عن ذلك بعذرين : الأوّل : أنهم فعلوا ذلك اقتداء بآبائهم لما وجدوهم مستمرين على فعل تلك الفاحشة ، والثاني : أنهم مأمورون بذلك من جهة الله سبحانه . وكلا العذرين في غاية البطلان والفساد ، لأن وجود آبائهم على القبح لا يسوّغ لهم فعله ، والأمر من الله سبحانه لهم لم يكن بالفحشاء ، بل أمرهم باتباع الأنبياء والعمل بالكتب المنزلة ونهاهم عن مخالفتهما ، ومما نهاهم عنه فعل الفواحش ، ولهذا ردّ الله سبحانه عليهم بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء } فكيف تدّعون ذلك عليه سبحانه ، ثم أنكر عليهم ما أضافوه إليه ، فقال : { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وهو من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ، وفيه من التقريع والتوبيخ أمر عظيم ، فإن القول بالجهل إذا كان قبيحاً في كل شيء ، فكيف إذا كان في التقوّل على الله ؟

وإن في هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر ، وأبلغ واعظ ، للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق ، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق ، فإنهم القائلون : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } والقائلون : { وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا } والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب ، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به ، وأنه الحق لم يبق عليه ، وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية ، والنصراني على النصرانية ، والمبتدع على بدعته ، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية ، والنصرانية ، أو البدعية ، وأحسنوا الظنّ بهم ، بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ، ولم ينظروا لأنفسهم ، ولا طلبوا الحق كما يجب ، وبحثوا عن دين الله كما ينبغي ، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص ، فيا من نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية أنا لك النذير المبالغ في التحذير ، من أن تقول هذه المقالة وتستمر على الضلالة ، فقد اختلط الشرّ بالخير ، والصحيح بالسقيم ، وفاسد الرأي بصحيح الرواية ، ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبياً واحداً أمرهم باتباعه ونهى عن مخالفته فقال : { وَمَا آتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا } ولو كان محض رأى أئمة المذاهب وأتباعهم حجة على العباد ، لكان لهذه الأمة رسل كثيرون متعدّدون بعدد أهل الرأي المكلفين للناس بما لم يكلفهم الله به .

وإن من أعجب الغفلة ، وأعظم الذهول عن الحق ، اختيار المقلدة لآراء الرجال مع وجود كتاب الله ، ووجود سنة رسوله ، ووجود من يأخذونهما عنه ، ووجود آلة الفهم لديهم ، وملكة العقل عندهم .

/خ30