ثم أمره بالمحافظة على الصلاة وبالأمر بالمعروف ، وبالنهى عن المنكر وبالصبر على الأذى ، فقال : { يابني أَقِمِ الصلاة } أى : واظب على أدائها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين .
{ وَأْمُرْ بالمعروف } أى بكل ما حض الشرع على قوله أو فعله { وانه عَنِ المنكر } أى : عن كل ما نهى الشرع عن قوله أو فعله .
{ واصبر على مَآ أَصَابَكَ } من الأذى ، فإن الحياة مليئة بالشدائد والمحن والراحة إنما هى فى الجنة فقط .
واسم الإِشارة فى قوله : { أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } يعود إلى الطاعات المذكورة قبله . وعزم الأمور : أعاليها ومكارمها . أو المراد بها ما أوجبه الله - تعالى - على الإِنسان .
قال صاحب الكشاف : { إِنَّ ذَلِكَ } مما عزمها لله من الأمور ، أى : قطعه قطع إيجاب وإلزام . . ومنه الحديث : " إن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمه " ومنه عزمات الملوك ، وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده ، عزمت عليك إلا فعلت كذا . فإذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بد من فعله ، ولا مندوحة فى تركه .
وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات ، وأنها كانت مأمورا بها فى سائر الأمم ، وأن الصلاة لم تزل عظيمة الشأن ، سابقة القدم على ما سواها .
ويمضي السياق في حكاية قول لقمان لابنه وهو يعظه . فإذا هو يتابع معه خطوات العقيدة بعد استقرارها في الضمير . بعد الإيمان بالله لا شريك له ؛ واليقين بالآخرة لا ريب فيها ؛ والثقة بعدالة الجزاء لا يفلت منه مثقال حبة من خردل . . فأما الخطوة التالية فهي التوجه إلى الله بالصلاة ، والتوجه إلى الناس بالدعوة إلى الله ، والصبر على تكاليف الدعوة ومتاعبها التي لا بد أن تكون :
( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، واصبر على ما أصابك . إن ذلك من عزم الأمور ) . .
وهذا هو طريق العقيدة المرسوم . . توحيد لله ، وشعور برقابته ، وتطلع إلى ما عنده ، وثقة في عدله ، وخشية من عقابه . ثم انتقال إلى دعوة الناس وإصلاح حالهم ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر . والتزود قبل ذلك كله للمعركة مع الشر ، بالزاد الأصيل . زاد العبادة لله والتوجه إليه بالصلاة . ثم الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله ، من التواء النفوس وعنادها ، وانحراف القلوب وإعراضها . ومن الأذى تمتد به الألسنة وتمتد به الأيدي . ومن الابتلاء في المال والابتلاء في النفس عند الاقتضاء . . ( إن ذلك من عزم الأمور ) . . وعزم الأمور : قطع الطريق على التردد فيها بعد العزم والتصميم .
ثم قال : { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ } أي : بحدودها وفروضها وأوقاتها ، { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ } أي : بحسب طاقتك وجهدك ، { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } ، علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، لا بد أن يناله من الناس أذى ، فأمره بالصبر .
وقوله : { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ } أي : إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَبُنَيّ أَقِمِ الصّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىَ مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل لقمان لابنه يا بُنَيّ أقِمِ الصّلاةَ بحدودها وأمُرْ بالمَعْرُوفِ يقول : وأمر الناس بطاعة الله ، واتباع أمره وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ يقول : وانه الناس عن معاصي الله ومواقعة محارمه وَاصْبِرْ عَلى ما أصَابَكَ يقول : واصبر على ما أصابك من الناس في ذات الله إذا أنت أمرتهم بالمعروف ، ونهيتهم عن المنكر ، ولا يصدّنك عن ذلك ما نالك منهم إنّ ذلكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ يقول : إن ذلك مما أمر الله به من الأمور عزما منه . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : يا بُنَي أقِمِ الصلاةَ وأْمرْ بالمَعْروفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ على ما أصَابَكَ قال : اصبر على ما أصابك من الأذى في ذلك إنّ ذَلكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ قال : إن ذلك مما عزم الله عليه من الأمور ، يقول : مما أمر الله به من الأمور .
ثم وصى ابنه بعظم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل هو في نفسه ويزدجر عن المنكر وهنا هي الطاعات والفضائل أجمع ، وقوله { واصبر على ما أصابك } يقتضي حضاً على تغيير المنكر وإن نال ضرراً فهو إشعار بأن المغير يؤذي أحياناً ، وهذا القدر هو على جهة الندب والقوة في ذات الله ، وأما على اللزوم فلا .
وقوله تعالى { إن ذلك من عزم الأمور } يحتمل أن يريد مما عزمه الله وأمر به ، قاله ابن جريج ، ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق وعزم أهل الحزم والسالكين طريق النجاة ، والأول أصوب ، وبكليهما قالت طائفة{[9369]} .
انتقل من تعليمه أصول العقيدة إلى تعليمه أصول الأعمال الصالحة فابتدأها بإقامة الصلاة ، والصلاة التوجه إلى الله بالخضوع والتسبيح والدعاء في أوقات معينة في الشريعة التي يدين بها لقمان ، والصلاة عِماد الأعمال لاشتمالها على الاعتراف بطاعة الله وطلب الاهتداء للعمل الصالح . وإقامة الصلاة إدامتها والمحافظة على أدائها في أوقاتها . وتقدم في أول سورة البقرة . وشمل الأمرُ بالمعروف الإتيانَ بالأعمال الصالحة كلها على وجه الإجمال ليتطلَّب بيانه في تضاعيف وصايا أبيه كما شمل النهيُ عن المنكر اجتناب الأعمال السيئة كذلك . والأمر بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يقتضي إتيان الآمر وانتهاءه في نفسه لأن الذي يأمر بفعل الخير وينهى عن فعل الشر يعلم ما في الأعمال من خير وشر ، ومصالح ومفاسد ، فلا جرم أن يتوقاها في نفسه بالأولوية من أمره الناسَ ونهيه إياهم . فهذه كلمة جامعة من الحكمة والتقوى ، إذ جمع لابنه الإرشاد إلى فعله الخيرَ وبثِّه في الناس وكفه عن الشر وزجره الناس عن ارتكابه ، ثم أعقب ذلك بأن أمره بالصبر على ما يصيبه . ووجه تعقيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بملازمة الصبر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يَجران للقائم بهما معاداةً من بعض الناس أو أذى من بعض فإذا لم يصبر على ما يصيبه من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو شك أن يتركهما . ولما كانت فائدة الصبر عائدة على الصابر بالأجر العظيم عُدَّ الصبر هنا في عداد الأعمال القاصرة على صاحبها ولم يلتفت إلى ما في تحمل أذى الناس من حسن المعاملة معهم حتى يذكر الصبر مع قوله { ولا تصاعر خَدّك للناس } [ لقمان : 18 ] لأن ذلك ليس هو المقصود الأول من الأمر بالصبر .
والصبر : هو تحمل ما يحل بالمرء مما يؤلم أو يحزن . وقد تقدم في قوله تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة } في سورة البقرة ( 45 ) .
وجملة { إن ذلك من عزم الأمور } موقعها كموقع جملة { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .
والإشارة ب { ذلك } إلى المذكور من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما أصاب . والتأكيد للاهتمام .
والعزم مصدر بمعنى : الجزم والإلزام . والعزيمة : الإرادة التي لا تردد فيها . و { عزم } مصدر بمعنى المفعول ، أي من معزوم الأمور ، أي التي عزمها الله وأوجبها .