السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (17)

ولما نبه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب أمره بما يدخره لذلك توسلاً إليه وتخشعاً لديه وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه بقوله : { يا بني } مكرر للمناداة تنبيهاً على فرط النصيحة لفرط الشفقة { أقم الصلاة } أي : بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها تسبباً في نجاة نفسك وتصفية سرك فإن إقامتها وهو الإتيان بها على النحو المرضي مانعة من الخلل في العمل ، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لأنها الإقبال على من وحدته ، فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثابتة للتوحيد وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيآتها اختلفت وترك ذكر الزكاة تنبيهاً على أنه من حكمته ، والحكمة تخليه وتخلى ولده من الدنيا حتى ما يكفيهم لقوتهم .

ولما أمره بتكميله في نفسه توفية لحق الحق عطف على ذلك تكميله لغيره بقوله { وأمر بالمعروف } أي : كل من تقدر على أمره تهذيباً لغيرك وشفقة على نفسك لتخليص أبناء جنسك { وإنه } أي : كل من قدرت على نهيه { عن المنكر } حباً لأخيك ما تحب لنفسك تحقيقاً لنصيحتك وتكميلاً لعبادتك ، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمه الله تعالى :

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإن انتهت عنه فأنت حكيم

لأنه أمره أولاً بالمعروف وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر ، فإذا أمر نفسه ونهاها ناسب أن يأمر غيره وينهاه ، وهذا وإن كان من قول لقمان إلا أنه لما كان في سياق المدح له كنا مخاطبين به ، فإن قيل كيف قدم في وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وحين أمر أنه قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فقال : لا تشرك بالله ثم قال أقم الصلاة ؟ أجيب : بأنه كان يعلم أنّ ابنه معترف بوجود الإله فما أمره بهذا المعروف بل نهاه عن المنكر الذي ترتب على هذا المعروف ، وأمّا ابنه فأمره أمراً مطلقاً والمعروف يقدم على المنكر .

ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر قال له { واصبر } صبراً عظيماً بحيث تكون مستعلياً { على ما } أي : الذي { أصابك } أي : في عبادتك وغيرها من الأمر بالمعروف وغيره سواء أكان بواسطة العباد أم لا كالمرض ، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنهما ملاك الاستعانة قال تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة } ( البقرة : 45 ) وأخرج أحمد عن هشام ابن عروة عن أبيه قال : مكتوب في الحكمة يعني حكمة لقمان عليه السلام لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسيطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطايا . وقال : مكتوب في الحكمة أو في التوراة الرفق رأس الحكمة ، وقال : مكتوب في التوراة كما تَرحمون تُرحمون ، وقال : مكتوب في الحكمة كما تزرعون تحصدون ، وقال : مكتوب في الحكمة أحبب خليلك وخليل أبيك ، وقيل للقمان : أي الناس شر ؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً ، ومن حكمته أنه قال : أقصر عن اللجاجة ولا أنطق فيما لا يعنيني ولا أكون مضحاكاً من غير عجب ولا مشاء لغير أرب ، ومنها من كان له من نفسه واعظ كان له من الله حافظ ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله بذلك عزاً ، والذل في طاعة الله أقرب من التعزز بالمعصية ، ومنها أنه كان يقول ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن : الحليم عند الغضب ، والشجاع عند الحرب ، وأخوك عند حاجتك إليه .

ولما كان ما أحكمه لولده عظيم الجدوى وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال نبه بذلك بقوله على سبيل الاستئناف أو التعليل { إن ذلك } أي : الأمر العظيم الذي أوصيك به لاسيما الصبر على المصائب { من عزم الأمور } أي : معزوماتها تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر أي : الأمور المقطوع بها المفروضة ، أو القاطعة الجازمة وبجزم فاعلها .