نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (17)

ولما نبهه{[53921]} على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب ، أمره مما يدخره لذلك توسلاً إليه ، وتخضعاً لديه ، وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه ، فقال{[53922]} : { يا بني } مكرراً للمناداة على هذا الوجه تنبيهاً على فرط النصيحة لفرط الشفقة { أقم الصلاة } أي بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها ، سعياً في نجاة نفسك وتصفية سرك ، فإن إقامتها - وهي{[53923]} الإيتان بها على النحو{[53924]} المرضي - مانعة من الخلل في العمل { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } لأنها الإقبال على من وحدته فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم ، ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثانية التوحيد ، وترك{[53925]} ذكر الزكاة تنبيهاً على أن من حكمته تخليه وتخلي ولده من{[53926]} الدنيا حتى مما يكفيهم لقوتهم .

ولما أمر بتكميله في نفسه بتكميل نفسه توفية{[53927]} لحق الحق ، عطف على ذلك تكميله لنفسه بتكميل غيره توفية لحق الخلق{[53928]} ، وذلك أنه لما كان الناس في هذه الدار سفراً ، وكان المسافر إن أهمل رفيقه حتى أخذ أوشك أن يؤخذ هو ، أمره بما يكمل نجاته بتكميل رفيقه ، وقدمه - وإن كان من جلب المصالح - لأنه يستلزم ترك المنكر ، وأما ترك المنكر فلا{[53929]} يستلزم فعل الخير ، فإنك إذا قلت : لا تأت منكراً ، لم يتناول ذلك في العرف إلا الكف عن فعل المعصية ، لا فعل الطاعة ، فقال : { وأمر بالمعروف } أي كل من تقدر على أمره تهذيباً لغيرك شفقة على نفسك بتخليص أبناء جنسك .

ولما كانت هذه الدار سفينة لسفر من فيها إلى ربهم ، وكانت المعاصي مفسدة لها ، وكان فساد السفينة مغرقاً لكل من فيها : من أفسدها ومن أهمل المفسد ولم يأخذ على يده ، وكان الأمر بالمعروف نهياً عن المنكر ، صرح به فقال{[53930]} : { وانه } أي كل من قدرت على نهيه { عن المنكر } حباً لأخيك ما تحب لنفسك ، تحقيقاً لنصيحتك ، وتكميلاً لعبادتك ، لأنه ما عبد{[53931]} الله أحد ترك غيره يتعبد لغيره ، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود{[53932]} رحمه الله تعالى :ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

لأنه أمره أولاً بالمعروف ، وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر ، فإذا أمر نفسه ونهاها ، ناسب أن {[53933]}يأمر غيره{[53934]} ينهاه ، وهذا وإن كان من قول لقمان عليه السلام إلا أنه لما كان في سياق{[53935]} المدح له كنا مخاطبين به .

ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر ، لأنه يخالف المعظم فيرمونه عن قوس واحدة لا سيما{[53936]} أن أمرهم ونهاهم ، قال تعالى : { واصبر } صبراً عظيماً بحيث يكون مستعلياً { على ما } أي الذي ، وحقق بالماضي أنه{[53937]} لا بد من المصيبة ليكون الإنسان على بصيرة ، فقال : { أصابك } أي في عبادتك من الأمر بالمعروف{[53938]} وغيره{[53939]} سواء كان بواسطة العباد أو لا كالمرض{[53940]} ونحوه ، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنها{[53941]} ملاك الاستعانة

واستعينوا بالصبر والصلاة }[ البقرة : 45 ] واختلاف المخاطب في الموضعين أوجب اختلاف الترتيبين ، المخاطب هنا مؤمن متقلل ، وهناك كافر متكثر .

ولما كان ما أحكمه له{[53942]} عظيم الجدوى ، وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال والتروك كلها ، نبهه{[53943]} على ذلك بقوله على سبيل التعليل والاستئناف إيماء إلى التبجيل : { إن ذلك } أي الأمر العظيم الذي أوصيتك به لا سيما{[53944]} الصبر على المصائب{[53945]} : { من عزم الأمور } أي معزوماتها ، تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر ، أي الأمور{[53946]} المقطوع بها المفروضة {[53947]}أو القاطعة{[53948]} الجازمة بجزم فاعلها ، أي التي هي أهل لأن يعزم عليها العازم{[53949]} ، وينحو إليها بكليته الجازم ، فلا مندوحة في تركها بوجه من الوجوه في ملة من الملل .


[53921]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: نبه.
[53922]:من م ومد، وفي الأصل وظ: قال.
[53923]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أقمتها وهو.
[53924]:في ظ: الوجه.
[53925]:في ظ: لترك.
[53926]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عن.
[53927]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: توفيقه.
[53928]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الحق.
[53929]:في ظ: لا.
[53930]:زيد من ظ وم ومد.
[53931]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: عند.
[53932]:هو ظالم بن عمرو وأبو الأسود الدؤلي، والبيت الآتي من أشهر أبياته.
[53933]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بأمره.
[53934]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بأمره.
[53935]:زيد في ظ: الكلام.
[53936]:في ظ: ولاسيما.
[53937]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: لأنه.
[53938]:زيد من ظ وم ومد.
[53939]:زيدت الواو في ظ ومد.
[53940]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لمرض.
[53941]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لأها.
[53942]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لهم.
[53943]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: نبه.
[53944]:زيد في الأصل: على، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[53945]:من م ومد، وفي الأصل وظ: المصاب.
[53946]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الأمر.
[53947]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالقاطعة.
[53948]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالقاطعة.
[53949]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: العار.