( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) .
وذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة كما سلف . فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة . صفة الانتصار من البغي ، وعدم الخضوع للظلم . وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة . لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل ؛ وهي عزيزة بالله . ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) . . فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي وأن تدفع العدوان . وإذا كانت هناك فترة اقتضت لأسباب محلية في مكة ، ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من العرب خاصة ، أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة .
ولقد كانت هنالك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي :
منها أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم تكن تصدر من هيئة مسيطرة على الجماعة . فالوضع السياسي والاجتماعي في الجزيرة كان وضعاً قبلياً مخلخلاً . ومن ثم كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب ، ولم يكن أحد غير خاصة أهله يجرؤ على إيذائه - ولم يقع إلا في الندرة أن وقع اعتداء جماعي على فرد مسلم أو على المسلمين كجماعة - كما كان السادة يؤذون مواليهم إلى أن يشتريهم المسلمون ويعتقوهم فلا يجرؤ أحد على إيذائهم غالباً . ولم يكن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد . والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة .
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى . واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم ، كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين . وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشعب وحصر بني هاشم فيه . فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار ، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة ، ونقضت هذا العهد الجائر .
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف ، وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام . والتوازن في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم ، وإخضاعها لهدف ، وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب . مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وعلى كل مغنم . ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية ، وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق .
فهذه الاعتبارات وأمثالها قد اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة . مع تقرير الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة : ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) . .
وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } أي : فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ، ليسوا بعاجزين ولا أذلة ، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم ، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا وعفوا ، كما قال يوسف ، عليه السلام ، لإخوته : { لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ]{[25923]} } [ يوسف : 92 ] ، مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه ، وكما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ، ونزلوا من جبل التنعيم ، فلما قدر عليهم مَنَّ عليهم {[25924]} مع قدرته على الانتقام ، وكذلك عفوه عن غَوْرَث بن الحارث ، الذي أراد الفتك به [ عليه السلام ]{[25925]} حين اخترط سيفه وهو نائم ، فاستيقظ ، عليه السلام ، وهو في يده صَلْتا ، فانتهره فوضعه من يده ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف من يده ، ودعا أصحابه ، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل ، وعفا عنه . وكذلك عفا عن لبيد بن الأعصم{[25926]} ، الذي سحره ، عليه السلام ، ومع هذا لم يعرض له ، ولا عاتبه ، مع قدرته عليه . وكذلك عفوه ، عليه السلام ، عن المرأة اليهودية - وهي زينب أخت{[25927]} مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن مسلمة - التي سمت الذراع يوم خيبر ، فأخبره الذراع بذلك ، فدعاها فاعترفت فقال : " ما حملك على ذلك " قالت : أردت إن كنت نبيا لم يضرك ، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك ، فأطلقها ، عليه الصلاة والسلام ، ولكن لما مات منه بشر بن البراء قتلها به ، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا ، والحمد لله{[25928]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : والذين إذا بغى عليهم باغٍ ، واعتدى عليهم هم ينتصرون .
ثم اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره ، المنتصر منه بعد بغيه عليه ، فقال بعضهم : هو المشرك إذا بغى على المسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب قال : قال ابن زيد : ذكر المهاجرين صنفين ، صنفا عفا ، وصنفا انتصر ، وقرأ وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَوَاحِشَ وَإذَا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ قال : فبدأ بهم وَالّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبّهِمْ . . . إلى قوله : ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وهم الأنصار . ثم ذكر الصنف الثالث فقال : وَالّذِينَ إذَا أصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ من المشركين . وقال آخرون : بل هو كل باغٍ بغي فحمد المنتصر منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَالّذِينَ إذَا أصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ قال : ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا .
وهذا القول الثاني أولى في ذلك بالصواب ، لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى ، بل حمد كلّ منتصر بحقّ ممن بغى عليه .
فإن قال قائل : وما في الانتصار من المدح ؟ قيل : إن في إقامة الظالم على سبيل الحقّ وعقوبته بما هو له أهل تقويما له ، وفي ذلك أعظم المدح .
{ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } على ما جعله الله لهم كراهة التذلل ، وهو وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمهات الفضائل وهو لا يخالف وصفهم بالغفران ، فإنه ينبئ عن عجز المغفور والانتصار عن مقاومة الخصم ، والحلم عن العاجز محمود وعن المتغلب مذموم لأنه إجراء وإغراء على البغي ، ثم عقب وصفهم بالانتصار للمنع عن التعدي .