اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغۡيُ هُمۡ يَنتَصِرُونَ} (39)

قوله : { والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي } أي الظلم والعدوان «هُمْ يَنْتَصِرُونَ » أي ينتقمون من ظالمهم من غير أن يعتدوا . قال ابن زيد : جعل الله المؤمنين صنفين : صنف يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم وهو قوله : { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } وصنف ينتصرون نم ظالهم وهم المذكورون في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا ، فإذا قدروا عفوا . وقال عطاء : هم المؤمنون الذي أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم ، ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم{[49449]} . وعن النَّخعيِّ أنه كان إذا قرأها قال : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء{[49450]} .

فإن قيل : هذه الآية مشكلة لوجهين :

الأول : أنه لما ذكر قبله : وإذا ما غضبوا هم يغفرون كيف يليق أن يذكر معه ما يَجْرِي مَجْرَى الضد له وهم الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ؟ !

الثاني : أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن . قال تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] وقال : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] وقال { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] وقال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] ؟

فالجواب : أن العفو على قسمين :

أحدهما : أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عنه جنايته .

والثاني : أن يصير العفو سبباً لمزيد جرأة الجاني وقوة غيظه ، فآيات العفو محمولة على القسم الأول ، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني وحينئذ يزول التناقض .

«روي : أن زَيْنَبَ أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عنها فلم تنته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «دونَكِ{[49451]} فَانْتَصِرِي » وأيضاً فإنه تعالى لم يرغِّب في الانتصار ، بل بين أنه مشروع فقط ،


[49449]:البغوي 6/127.
[49450]:نقله القرطبي بلفظ: "فتجترئ عليهم الفساق" انظر الجامع 16/39.
[49451]:تصحيح من تفسير الإمام الرازي ففي النسختين: فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبيها، ولا أدري من أي مرجع أخذ المؤلف هذه اللفظة.