الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغۡيُ هُمۡ يَنتَصِرُونَ} (39)

فيه إحدى عشرة مسألة :

الأولى- قوله تعالى : " والذين إذا أصابهم البغي " أي أصابهم بغي المشركين . قال ابن عباس : وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وآذوهم وأخرجوهم من مكة فأذن الله لهم بالخروج ومكن لهم في الأرض ونصرهم على من بغى عليهم ، وذلك قوله في سورة الحج : " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا . . . " {[13536]} [ الحج : 39 - 40 ] الآيات كلها . وقيل : هو عام في بغي كل باغ من كافر وغيره ، أي إذا نالهم ظلم . من ظالم لم يستسلموا لظلمه . وهذه إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود . قال ابن العربي : ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح ، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح ، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر ، واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين : إحداهما أن يكون الباغي معلنا بالفجور ، وقحا في الجمهور ، مؤذيا للصغير والكبير ، فيكون الانتقام منه أفضل . وفي مثله قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق . الثانية : أن تكون الفلتة ، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة ، فالعفو ها هنا أفضل ، وفي مثله نزلت : " وأن تعفوا أقرب للتقوى " {[13537]} [ البقرة : 237 ] . وقوله : " فمن تصدق به فهو كفارة له " {[13538]} [ المائدة : 45 ] . وقوله : " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " {[13539]} [ النور : 22 ] . قلت : هذا حسن ، وهكذا ذكر الكيا الطبري في أحكامه قال : قوله تعالى : " والذين إذا أصابهم البغي ينتصرون " يدل ظاهره على أن الانتصار في هذا الموضع أفضل ، ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله سبحانه وتعالى وإقام الصلاة ، وهو محمول على ما ذكر إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق ، فهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك . والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما مقلعا . وقد قال عقيب هذه الآية : " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " . ويقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به ، وقد عقبه بقوله : " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " . وهو محمول على الغفران عن غير المصر ، فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه بدلالة الآية التي قبلها . وقيل : أي إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزيلوه عنهم ويدفعوه . قاله ابن بحر . وهو راجع إلى العموم على ما ذكرنا .


[13536]:آية 39 راجع ج 12 ص 67.
[13537]:آية 237 سورة البقرة.
[13538]:آية 45 سورة المائدة.
[13539]:آية 22 سورة النور.