قوله تعالى : { أولئك هم المؤمنون حقاً } ، يعني يقيناً ، قال ابن عباس : برئوا من الكفر ، قال مقاتل : حقاً لا شك في إيمانهم ، وفيه دليل على أنه ليس لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمناً حقاً ، لأن الله تعالى إنما وصف بذلك قوماً مخصوصين على أوصاف مخصوصة ، وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه . وقال ابن أبي نجيح : سأل رجل الحسن فقال : أمؤمن أنت ؟ فقال : إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا بها مؤمن . وإن كنت تسألني عن قوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم }الآية ، فلا أدري أمنهم أنا أم لا ؟ .
وقال علقمة : كنا في سفر ، فلقينا قوماً ، فقلنا : من القوم ؟ قالوا : نحن المؤمنون حقاً ، فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا ، قال : فما رددتم عليهم ؟ قلنا : لم نرد عليهم شيئاً ، قال : أفلا قلتم ، أمن أهل الجنة أنتم ؟ إن المؤمنين أهل الجنة . وقال سفيان الثوري : من زعم أنه مؤمن حقاً أو عند الله ، ثم لم يشهد أنه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف .
قوله تعالى : { لهم درجات عند ربهم } ، قال عطاء : يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم . وقال الربيع بن أنس : سبعون درجة ، ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين خريفا .
{ أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
أى : أولئك المتصفون بتلك الصفات الكريمة هم المؤمنون إيمانا حقا { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ } عالية ، ومكانة سامية { عِندَ رَبِّهِمْ } ولهم { وَمَغْفِرَةٌ } شاملة لما فرط منهم من ذنوب ، ولهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } في الجنة ، يجعلهم يحيون فيها حياة طيبة
{ لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } وقوله { حَقّاً } منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ، أى : أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً .
والتنوين في قوله { دَرَجَاتٌ } للتعظيم والتهويل أى : لهم درجات رفيعة ، ومنازل عظيمة ، وفى وصف هذه الدرجات بأنها { عِندَ رَبِّهِمْ } مزيد تشريف لهم ، ولطف بهم ، وإيذان بأن ما وعدهم به متيقن الوقوع ، لأنه وعد من كريم لا يخلف وعده - سبحانه - .
وفى وصف الرزق الذي أعده لهم بالكرم ، زيادة في إدخال السرور على قلوبهم ؛ لأن لفظ الكريم يصف به العرب كل شئ حسن في بابه ، بحيث يكون لا قبح فيه ولا شكوى معه .
وبذلك نرى أن أصحاب تلك الصفات الحميدة قد مدحهم الله - تعالى - مدحاً عظيما ، وكأفأهم على إيمانهم الحق بالدرجات العالية ، والمغفرة الشاملة ، والرزق الكريم : { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } هذا ، وقد استنبط العلماء من تلك الآيات جملة من الأحكام والآداب منها :
1- حرص الصحابة على سؤال النبى - صلى الله عليه وسلم - عما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم .
فإن قيل : كيف تأتى لأصحابه الذين شهدوا برداً - وهم من هم في عفتهم وزهدهم - أن يختلفوا في شأن الغنائم .
فالجواب ، ، أن بعض الصحابة المشتركين في هذه الغزوة هم الذين حدث بينهم الخلاف في شأنها ؛ لأنهم لم يكن لهم عهد سابق بكيفية تقسيمها ، أما أكثر الصحابة فإنهم لم يلتفتوا إلى هذه الغنائم ، بل تركوا أمرها إلى رسول الله - يضعها كيف يشاء .
وأيضاً فإن هؤلاء الذين حدث بينهم الخلاف في شأن الغنائم ، كان من الدوافع التي دفعتهم إلى هذا الخلاف ، ما فهموه من أن حيازة الغنائم تدل على حسن البلاء ، وشدة القتال في سبيل الله ، فكان كل واحد منهم يحرص على أن يظهر بهذا المظهر المشرف وهم في أول لقاء لهم مع أعدائهم .
وعندما جاوز هذا الحرص حده ، بأن غطى على ما يجب أن يسود بينهم من سماحة وصفاء ، نزل القرآن ليربيهم بتربيته الحكيمة ، وليؤدبهم السامى ، وليخبرهم بحكم الله في شأن هذه الأنفال . . وبعد ان عرفوا حكم الله في شأنها ، قابلوه بالرضا والإِذعان والتسليم .
2- أن القرآن في ترتيبه للحوادث ، لا يلزم سردها على حسب زمن وقوعها ، وإنما يرتبها بأسلوبه الخاص الذي يراعى فيه مقتضى حال المخاطب .
فلقد افتتحت السورة التي معنا بالحديث عن الغنائم التي غنمها المسلمون في بدر - مع أن ذلك كان بعد انتهاء الغزوة - ليشعر المخاطبين من أول الأمر أن النصر في هذه الغزوة كان للمسلمين ، وأن الإِسلام قد صرع الكفر منذ أول معرفكة نازله فيها .
وهذا اللون من الافتتاح هو ما يعبر عنه البلغاء ببراعة الاستهلال .
ولقد أفاض بعض العلماء في شرح هذا المعنى فقال ما ملخصه .
وقد بدأت السورة بموضوع الأنفال واختلافهم في قسمتها وسؤالهم عنها ، فساقت في ذلك أربع آيات ، هن : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله } إلى قوله - { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
وقد عالجت هذه الآيات نفوس المؤمنين ، وعملت على تطهيرها من الاختلاف الذي ينشأ عن حب المال والتطلع إلى المادة ، ولا ريب أن حب المال والتطلع إلى المادة من أكبر أسباب الفشل .
ولأهمية هذا الموضوع في حياة المؤمنين بدأت به السورة ، وإن كان اختلافهم في قسمة الأنفال متأخراً في الوجود عن اختلافهم في الخروج إلى بدر ، وقتال الأعداء .
وقد عرفنا من سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبة حسب وقوعها ، وذلك لأنه لا يذكرها على أنها تاريخ يعين لها الوقت والمكان ، وإنما يذكرها لما فيها من العبر والمواعظ ، ولما تطلبه من الأحكام والحكم .
وقد بدأت السورة بالحديث عن الأنفال للمسارعة من أول الأمر بنتائج النصر الذي كفله الله للمؤمنين .
وليس من تربية النفوس أن نبدأ الكلام معا بما يدل على الاضطراب والفزع والتردد أمام وسائل العزة والشرف ، متى وجد لهم بجانب هذا التردد ما يدل على مواقف الشرف والكرامة . .
ولا كذلك يكون الأمر إذا بدئت ببيان تثاقلهم في الخروج إلى الغزوة ، وانظر كيف يكون وقع المطلع إذا جاء على هذا الوجه { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ . . } إلخ .
لا ريب أنه مطلع شديد الوقع على النفوس ، يصور علاقة المؤمنين بنبيهم في صورة يأباها إيمانهم به وامتثالهم لأمره . يصورهم في شقاق واختلاف مع قائدهم ورسولهم ويصوره في ثوب الكراهية الشديدة لمعالى الأمور وعز الحياة .
لهذا كله جاء الأسلوب في سرد الوقائع غير مكترث بمخالفة ترتبيها في الوجود الخارجى .
3- استدل جمهور العلماء بقوله - تعالى - { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } على أن الإِيمان يزيد وينقص . . .
ومن المفسرين الذين بسطوا القول في هذه المسألة الإِمام الآلوسى ، فقد قال ما ملخصه :
قوله - تعالى - { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ } أى : القرآن { زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } أى : تصديقا كما هو المتبادر ، فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك .
وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإِيمان يقبل الزيادة والنقص ، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ، وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا .
بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل - أيضا - وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإِيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصى ، مساويا لإِيمان الأنبياء والملائكة ، واللازم باطل فكذا الملزوم .
وقال النووى : إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها ، فكذا التصديق والمعرفة يتفاضلان بحسب ظهور البراهين وكثرتها .
وذهب الإِمام أبو حنيفة وكثير من المتكلمين إلى أن الإِيمان لا يزيد ولا ينقص ، واختاره إمام الحرمين ، محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإِذعان ، وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان فالمصدق إذا اتى أو ارتكب المعاصى فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا ، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة .
وذهب جماعة منهم الإِمام الرازى إلى أن الخلاف في زيادة الإِيمان ونقصانه وعدمها لفظى ، وهو فرع تفسير الإِيمان ، فمن فسره بالتصديق قال : إنه لا ينقص ، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال : إنه يزيد وينقص ، وعلى هذا قول البخارى " لقيت اكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار ، فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإِيمان قول وعمل ويزيد وينقص ، وهو المعنى بما روى " عن ابن عمر أنه قال . قلنا يا رسول الله إن الإِيمان يزيد وينقص ، قال ، نعم ، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة ، وينقص حتى يدخل صاحبه النار " .
ويبدو لنا أن رأى جمهور العلماء في هذه المسألة ، أولى بالقبول ؛ لأنه من الواضح أن إيمان الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ارسخ وأقوى من إيمان آحاد الناس ، ولأنه كلما تكاثرت الأدلة كان الإِيمان أشد رسوخا في النفس وأعمق أثراً في القلب ، فلا تزلزله الشهبات ولا تزعزعه العوارض والفتن .
ومن أوضح الأدلة على أن الإِيمان يقوى بقوة البرهان إلى درجة الاطمئنان ، ما حكاه الله - تعالى - عن إبراهيم في قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } فهذه الآية تدل دلالة واضحة على أن مقام الطمأنينة في الإِيمان ، يزيد على ما دونه من الإِيمان المطلق قوة وكمالا . إن إبراهيم - عليه السلام - لا شك أنه كان مؤمنا عندما سأل ربه هذا السؤال ، سأله ذلك لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة أعلى : وهى مرتبة عين اليقين . .
هذا ، وشبيه بهذه الآية في الدلالة على قبول الإِيمان للزيادة والنقصان قوله - تعالى : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } وقوله - تعالى - : { هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } وقوله - تعالى - : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } وقوله - تعالى - : { وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي وردت في هذا المعنى .
4- في هذه الآيات الكريمة تربية ربانية للمؤمنين ، وتوجيه لهم إلى ما يسعدهم ، وإرشاد لهم إلى أن المؤمن الصادق في إيمانه ، هو الذي يجمع بين سلامة العقيدة ، وسلامة الخلق ، وصلاح العمل ، وأن المؤمن متى جمع بين هذه الصفات ارتفع إلى أعلى الدرجات ، وأحسن بحلاوة الإِيمان في قلبه .
روى الحافظ الطبرانى " عن الحارث بن مالك الأنصارى أنه مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له : " كيف أصبحت يا حارث " ؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا ، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - " انظر ما تقول فإن لكل شئ حقيقة ، فما حقيقة إيمانك " ؟ فقال الحارث : عزفت عن الدنيا فأسهرت ليلى ، وأظمأت نهارى . وكأنى أنظر إلى عرش ربى بارزاً ، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " يا حارث عرفت فالزم " ثلاثا " .
وعلى نفس القاعدة يجيء التعقيب الأخير :
( أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم درجات عند ربهم ، ومغفرة ، ورزق كريم ) . .
فهذه الصفات إنما يجدها في نفسه وفي عمله المؤمن الحق . فمن لم يجدها جملة لم يجد صفة الإيمان . وهي في الوقت ذاته تواجه الحالة التي تنزلت فيها الآيات . . ومن ثم تواجه الحرص على الشهادة بحسن البلاء ، بأن هؤلاء الذين يجدون هذه الصفات ( لهم درجات عند ربهم ) . . وتواجه ما وقع في ذات البين من سوء أخلاق - كما قال عبادة بن الصامت - بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم( مغفرة ) . . وتواجه ما وقع من نزاع على الأنفال بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم ( رزق كريم ) . . فتغطي الحالة كلها ، كل ما لابسها من مشاعر ومواقف . وتقرر في الوقت ذاته حقيقة موضوعية ؛ وهي أن هذه صفات المؤمنين ، من فقدها جملة لم يجد حقيقة الإيمان .
( أولئك هم المؤمنون حقاً ) . . .
وقد كانت العصبة المسلمة الأولى تُعلم أن للإيمان حقيقة لا بد أن يجدها الإنسان في نفسه ، وأنه ليس الإيمان دعوى ولا كلمات لسان ، ولا هو بالتمني . . قال الحافظ الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن يزيد السكسكي ، عن سعيد ابن أبي هلال ، عن محمد بن أبي الجهم ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ، أنه مر برسول الله [ ص ] فقال له : " كيف أصبحت يا حارث ? " قال : أصبحت مؤمناً حقا . قال : " انظر ما تقول ، فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ? " فقال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري . وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا . وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها . وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها . فقال : " يا حارث . عرفت فالزم " . . ثلاثاً . . . ولقد ذكر هذا الصحابي الذي استحق شهادة رسول الله [ ص ] له بالمعرفة من حال نفسه ، ما يصور مشاعره ويشي بما وراء هذه المشاعر من عمل وحركة . فالذي كأنه ينظر إلى عرش ربه بارزاً ، وينظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وإلى أهل النار يتضاغون فيها ، لا ينتهي إلى مجرد النظر . إنما هو يعيش ويعمل ويتحرك في ظل هذه المشاعر القوية المسيطرة التي تصبغ كل حركة وتؤثر فيها . ذلك إلى جانب ما أسهر ليله وأظمأ نهاره ، وكأنما هو ناظر إلى عرش ربه بارزاً . . . .
إن حقيقة الإيمان يجب أن ينظر إليها بالجد الواجب ؛ فلا تتميع حتى تصبح كلمة يقولها لسان ، ومن ورائها واقع يشهد ظاهرة شهادة بعكس ما يقوله اللسان ! إن التحرج ليس معناه التميع ! والشعور بجدية الحقيقة الإيمانية أوجب ؛ والتحرج في تصورها ألزم . وبخاصة في قلوب العصبة المؤمنة التي تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع ، التي غلبت عليها الجاهلية ، وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة !
وقوله { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } أي : المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن خالد بن يزيد{[12659]} السَّكْسَكِيّ ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن محمد بن أبي الجهم ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ؛ أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : " كيف أصبحت يا حارث ؟ " قال : أصبحت مؤمنا حقا . قال : " انظر ماذا{[12660]} تقول ، فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ " فقال : عَزَفَت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلى ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يَتَضاغَوْن فيها ، فقال : " يا حارث ، عرفت فالزم " ثلاثا{[12661]}
وقال عمرو بن مُرَّة في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } إنما أُنزلَ{[12662]} القرآن بلسان العرب ، كقولك : فلان سيد حقا ، وفي القوم سادة ، وفلان تاجر حقا ، وفي القوم تجار ، وفلان شاعر حقا ، وفي القوم شعراء .
وقوله : { لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : منازل ومقامات ودرجات في الجنات ، كما قال تعالى : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ آل عمران : 163 ]
{ ومغفرة } أي : يغفر لهم السيئات ، ويشكر لهم الحسنات .
وقال الضحاك في قوله : { لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أهل الجنة بعضهم فوق بعض ، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه ، ولا يرى الذي هو أسفلُ أنه فُضّل عليه أحد .
ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل علِّيين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء " ، قالوا{[12663]} يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء ، لا ينالها غيرهم ؟ فقال : " بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " {[12664]}
وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد [ و ]{[12665]} أهل السنن من حديث عَطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنْعَمَا " {[12666]}
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . .
يقول تعالى ذكره : الذين يؤدّون الصلاة المفروضة بحدودها ، وينفقون مما رزقهم الله من الأموال فيما أمرهم الله أن ينفقوها فيه من زكاة وجهاد وحجّ وعمرة ونفقة على من تجب عليهم نفقته ، فيؤدّون حقوقهم . أولَئِكَ يقول : هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال . هُمُ المُؤْمِنُونَ لا الذين يقولون بألسنتهم قد آمنا وقلوبهم منطوية على خلافه نفاقا ، لا يقيمون صلاة ولا يؤدّون زكاة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس : الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ يقول : الصلوات الخمس . وممّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يقول : زكاة أموالهم . أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقّا يقول : برئوا من الكفر . ثم وصف الله النفاق وأهله ، فقال : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرّقُوا بينَ اللّهَ وَرُسُلِهِ . . . إلى قوله : أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا فجعل الله المؤمن مؤمنا حقّا ، وجعل الكافر كافرا حقّا ، وهو قوله : هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقّا قال : استحقوا الإيمان بحقّ ، فأحقه الله لهم .
القول في تأويل قوله تعالى : لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : لَهُمْ دَرَجاتٌ لهؤلاء المؤمنين الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم درجات ، وهي مراتب رفيعة .
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الدرجات التي ذكر الله أنها لهم عنده ما هي ، فقال بعضهم : هي أعمال رفيعة وفضائل قدّموها في أيام حياتهم . ذكر من قال ذلك .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد : لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : أعمال رفيعة .
وقال آخرون : بل ذلك مراتب في الجنة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن جبلة ، عن عطية ، عن ابن محيريز : لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : الدرجات سبعون درجة ، كل درجة حضر الفرس الجواد المضمّر سبعين سنة .
وقوله وَمَغْفرَةٌ يقول : وعفو عن ذنوبهم وتغطية عليها . وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قيل : الجنة . وهو عندي ما أعدّ الله في الجنة لهم من مزيد المآكل والمشارب وهنيء العيش .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة : وَمَغْفِرَةٌ قال : لذنوبهم . وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قال : الجنة .