معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

قوله تعالى : { وجاهدوا في الله حق جهاده } قيل : جاهدوا في سبيل الله أعداء الله حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه ، قاله ابن عباس : وعنه أيضاً أنه قال : لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد ، كما قال تعالى : { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } قال الضحاك و مقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته . وقال مقاتل بن سليمان : نسخها قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال أكثر المفسرين : حق الجهاد أن تكون نيته خالصةً لله عز وجل . وقال السدي : هو أن يطاع فلا يعصى . وقال عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر ، وهو حق الجهاد . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك قال : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار ، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس{ هو اجتباكم } يعني : اختاركم لدينه { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ضيق ، معناه : أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجاً ، بعضها بالتوبة ، وبعضها برد المظالم والقصاص ، وبعضها بأنواع الكفارات ، فليس في دين الإسلام ذنب لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العقاب فيه . وقيل : من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس ذلك عليكم ، وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا . وقال مقاتل : يعني الرخص عند الضرورات ، كقصر الصلاة في السفر ، والتيمم عند فقد الماء وأكل الميتة عند الضرورة ، والإفطار بالسفر والمرض ، والصلاة قاعداً عند العجز . وهو قول الكلبي . وروي عن ابن عباس أنه قال : الحرج ما كان على بني إسرائيل من الأعمال التي كانت عليهم ، وضعها الله عن هذه الأمة . { ملة أبيكم إبراهيم } يعني : كلمة أبيكم ، نصب بنزع حرف الصفة . وقيل : نصب على الإغراء ، أي اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم ، وإنما أمرنا باتباع ملة إبراهيم لأنها داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : فما وجه قوله : { ملة أبيكم } وليس كل المسلمين يرجع نسبهم إلى إبراهيم . قيل : خاطب به العرب وهم كانوا من نسل إبراهيم . وقيل : خاطب به جميع المسلمين ، وإبراهيم أب لهم ، على معنى وجوب احترامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب ، وهو كقوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم مثل الوالد " { هو سماكم } يعني : إن الله تعالى سماكم { المسلمين من قبل } يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة . { وفي هذا } يعني : في هذا الكتاب ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال ابن زيد ( ( هو ) ) يرجع إلى إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه ، من قبل هذا الوقت ، وفي هذا الوقت ، وهو قوله : { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمة لك } { ليكون الرسول شهيداً عليكم } يوم القيامة أن قد بلغكم ، { وتكونوا } أنتم ، { شهداء على الناس } أن رسلهم قد بلغتهم ، { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله } ثقوا بالله وتوكلوا عليه . قال الحسن : تمسكوا بدين الله . وروي عن ابن عباس قال : سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره . وقيل : معناه ليثبتكم على دينه . وقيل : الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة ، { هو مولاكم } وليكم وناصركم وحافظكم ، { فنعم المولى ونعم النصير } الناصر لكم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

وبعد أن أمر - سبحانه - بالصلاة وبالعبادة وبفعل الخير ، أتبع ذلك بالأمر بالجهاد فقال - تعالى - : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ } .

والجهاد مأخوذ من الجهد ، وهو بذل أقصى الطاقة فى مدافعة العدو .

وهى أنواع ، أعظمها : جهاد أعداء الله - تعالى - من الكفار والمنافقين والظالمين والمبتدعين فى دين الله - تعالى - ما ليس منه .

كذلك من أنواع الجهاد : جهاد النفس الأمارة بالسوء ، وجهاد الشيطان .

وإضافة " حق " إلى " جهاد " فى قوله : { حَقَّ جِهَادِهِ } من إضافة الصفة التى إلى الموصوف أى : وجاهدوا - أيها المؤمنون - فى سبيل الله - تعالى - ومن أجل إعلاء كلمته ، ونصر شريعته ، جهادا كاملا صادقا لا تردد معه ولا تراجع .

قال صاحب الكشاف : قوله : { وَجَاهِدُوا . . . . } أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى . وهو الجهاد الأكبر . عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه رجع من بعض غزواته فقال : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " { فِي الله } أى : فى ذات الله ومن أجله . يقال : هو حق عالم ، وجد عالم ، ومنه { حَقَّ جِهَادِهِ } .

فإن قلت : ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه ، أو حق جهادكم فيه ، كما قال : { وَجَاهِدُوا فِي الله } ؟

قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص . فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت إضافته إليه . . .

وجملة " هو اجتباكم " مستأنفة ، لبيان علة الأمر بالجهاد ، والاجتباء : الاختيار والاصطفاء .

أى : جاهدوا - أيها المؤمنون - من أجل إعلاء كلمة الله ، لأنه - سبحانه - هو الذى اختاركم للذب عن دينه ، واصطفاكم لحرب أعدائه ، وجدير بمن اختاره الله واصطفاه أن يكون مطيعا له .

ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر لطفه بعباده فقال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } .

أى : ومن مظاهر رحمته بكم - أيها المؤمنون - أنه سبحانه لم يشرع فى هذا الدين الذى تدينون به ما فيه مشقة بكم ، أو ضيق عليكم : وإنما جعل أمر هذا الدين ، مبنى على اليسر والتخفيف ورفع الحرج ، ومن قواعده التى تدل على ذلك : أن الضرر يزال . وأن المشقة تجلب التيسير : وأن اليقين لا يرفع بالشك ، وأن الأمور تتبع مقاصدها ، وأن التوبة الصادقة النصوح تجب ما قبلها من ذنوب .

ومن الآيات التى تدل على أن هذا الدين مبنى على التيسير ورفع الحرج قوله - تعالى - : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا . . } وقوله - سبحانه - : { . . . يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر . . . } وفى الحديث الشريف : " بعثت بالحنيفية السمحاء " .

قال بعض العلماء : وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا ، بين المشقة فى الأحكام الشرعية ، وبين الحرج والعسر فيها ، فإن الأولى حاصلة وقلما يخلو منها تكليف شرعى ، إذ التكليف هو التزام ما فيه كلفة ومشقة ، أما المشقة الزائدة عن الحد التى تصل إلى حد الحرج ، فهى المرفوعة عن المكلفين .

فقد فرض الله الصلاة على المكلف ، وأوجب عليه أداءها ، وهذا شىء لا حرج فيه . ثم هو إذا لم يستطيع الصلاة من قيام ، فله أن يؤديها وهو قاعد أو بالإيماء . . . وهكذا جميع التكاليف الشرعية .

والخلاصة : أن هذا الدين الذى جاءنا به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه - عز وجل - مبنى على التخفيف والتيسير ، لا على الضيق والحرج ، والذين يجدون فيه ضيقا وحرجا ، هم الناكبون عن هديه ، الخارجون على تعالميه .

ورحم الله الإمام القرطبى فق قال : " رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع ، وأما السراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج ، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين . . . " .

والمراد بالملة فى قوله - تعالى - : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } الدين والشريعة ، ولفظ " ملة " هنا منصوب بنزع الخافض .

أى : ما جعل عليكم - أيها المؤمنون - فى دينكم من حرج ، كما لم يجعل ذلك - أيضا - فى لمة أبيكم إبراهيم .

ويصح أن يكون منصوبا على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفى الحرج بعد حذف المصدر المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه . أى : وسع عليكم فى دينكم توسعة ملة إبيكم إبراهيم .

ووصف - سبحانه - إبراهيم - عليه السلام - بالأبوة لهذه الأمة ، لأن رسول هذه الأمة - صلى الله عليه وسلم - ينتهى نسبه إلى إبراهيم ، ورسول هذه الأمة - صلى الله عليه وسلم - كالأب لها ، من حيث أنه - صلى الله عليه وسلم - جاءها من عند ربه - عز وجل - بما يحييها ويسعدها .

والضمير " هو " فى قوله - تعالى - : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا . . . } يعود إلى الله - تعالى - أى : هو - سبحانه - الذى سماكم المسلمين من قبل نزول القرآن . وسماكم - أيضا - بهذا الإسم فى هذا القرآن .

وقيل : الضمير " هو " يعود إلى إبراهيم أى : إبراهيم هو الذى سماكم المسلمين .

ومن وجوه ضعف هذا القول : أن اللن - تعالى - قال : { وَفِي هذا } أى سماكم المسلمين فى هذا القرآن ، وإبراهيم - عليه السلام - لحق بربه قبل نزول هذا القرآن بآزمان طويلة ، وأيضا فإن السياق يؤيد أن الضمير " هو " يعود إلى الله - تعالى - لأن الأفعال السابقة كقوله { هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } تعود إليه - عز وجل - .

ثم بين - سبحانه - أسباب هذا الاجتباء والاصطفاء فقال : { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } .

والمراد بشهادة الرسول على أمته : الإخبار بأنه قد بلغهم رسالة ربه .

والمراد بشهادة هذه الأمة على غيرها من الناس : الإخبار بأن الرسل الذين أرسلهم الله - تعالى - إلى هؤلاء الناس ، قد بلغوهم رسالة ربهم ، ونصحوهم بإخلاص العبادة لله وحده .

ويؤيد ذلك ما رواه البخارى عن أبى سعيد الخدرى قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يدعى نوح - عليه السلام - يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب . فيقا له : هل بلغت ما أرسلت به ؟ فيقول : نعم . فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير . فيقال له : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، فيشهدون أنه قد بلغ " .

وشبيه بهذه الجملة قوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } والمعنى : فعلنا ما فعلنا من اجتبائكم ، والتيسير عليكم ، وتسميتكم بالمسلمين ، ليكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أمر بتبليغه إليكم ، ولتكونوا أنتم شهداء على الناس بأن رسلهم قد بلغوهم رسالة ربهم .

وما دام الأمر كذلك { فَأَقِيمُواْ الصلاة } أيها المؤمنون بأن تؤدوها فى أوقاتها بإخلاص وخشوع { وَآتُواْ الزكاة } التى كلفكم الله - تعالى - بإيتائها إلى مستحقيها { واعتصموا بالله } أى : التجئوا إليه ، واستعينوا به فى كل أموركم فإنه - سبحانه - { هُوَ مَوْلاَكُمْ } أى : ناصركم ومتولى شئونكم ، ومالك أمركم ، وهو - تعالى - { نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } أى : هو - عز وجل - نعم المالك لأمركم ، ونعم النصير القوى لشأنكم .

وبعد : فهذه سورة الحج ، وهذا تفسير محرر لها .

نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

58

( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . وهو تعبير شامل جامح دقيق ، يصور تكليفا ضخما ، يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد . .

( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء ، وجهاد النفس ، وجهاد الشر والفساد . . كلها سواء . .

( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة ، واختاركم لها من بين عباده : ( هو اجتباكم ) . . وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة ، ولا يجعل هنالك مجالا للتخلي عنها أو الفرار ! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء !

وهو تكليف محفوف برحمة الله : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) . . وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته . ملحوظ فيه تلبيته تلك الفطرة . وإطلاق هذه الطاقة ، والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء . فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم . ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم !

وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية ، موصول الماضي بالحاضر : ( ملة أبيكم إبراهيم )وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - فلم تنقطع من الأرض ، ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام .

وقد سمى الله هذه الأمة الموحدة بالمسلمين . سماها كذلك من قبل وسماها كذلك في القرآن : ( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ) . .

والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك . فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات . حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وحتى سلمت إليها الأمانة ، وعهد إليها بالوصاية على البشرية . فاتصل ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله : ( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) . . فالرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يشهد على هذه الأمة ، ويحدد نهجها واتجاهها ، ويقرر صوابها وخطأها . وهي تشهد على الناس بمثل هذا ، فهي القوامة على البشرية بعد نبيها ؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها ، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة . ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج ، المختار من الله .

ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية . حتى إذا انحرفت عنه ، وتخلت عن تكاليفه ، ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة . وما تزال . ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله .

هذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد . . ومن ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله :

فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله . هو مولاكم . فنعم المولى ونعم المصير . .

فالصلاة صلة الفرد الضعيف الفاني بمصدر القوة والزاد . والزكاة صلة الجماعة بعضها ببعض والتأمين من الحاجة والفساد . والاعتصام بالله العروة الوثقى التي لا تنفصم بين المعبود والعباد .

بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها لها الله . وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات المادية التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض . والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها ، بل يدعو إلى إعدادها . ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفد ، والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله .

فيوجهون به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء .

إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدما إلى الكمال المقدر لها في هذه الأرض ؛ ولا يكتفي بأن يقودها للذائذ والمتاع وحدهما كما تقاد الأنعام .

وإن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية ، ولكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى . وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة ، المستقيمة على منهج الله في ظل الله . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ} (78)

وقوله : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } أي : بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم ، كما قال تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] .

وقوله : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أي : يا هذه الأمة ، الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم ، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول ، وأكمل شرع .

{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : ما كلفكم ما لا تطيقون ، وما ألزمكم بشيء فَشَقَ عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا ، فالصلاة - التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين - تجب في الحَضَر أربعًا وفي السفر تُقْصَر إلى ثِنْتَين ، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة ، كما ورد به الحديث ، وتُصَلى رجالا وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها . وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها ، والقيام فيها يسقط بعذر المرض ، فيصليها المريض جالسا ، فإن لم يستطع فعلى جنبه ، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات ، في سائر الفرائض والواجبات ؛ ولهذا قال ، عليه السلام{[20422]} : " بُعِثْتُ بالحنِيفيَّة السَّمحة " {[20423]} وقال لمعاذ وأبي موسى ، حين بعثهما أميرَين إلى اليمن : " بَشِّرا ولا تنفرا ، ويَسِّرا ولا تُعسِّرَا " {[20424]} . والأحاديث في هذا كثيرة ؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } يعني : من ضيق .

وقوله : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } : قال ابن جرير : نصب على تقدير : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : من ضيق ، بل وَسَّعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم . [ قال : ويحتمل أنه منصوب على تقدير : الزموا ملة أبيكم إبراهيم ]{[20425]} .

قلت : وهذا المعنى في هذه الآية كقوله : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } الآية [ الأنعام : 161 ] .

وقوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال الإمام عبد الله بن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } قال : الله عز وجل . وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والسدي ، وقتادة ، ومقاتل بن حَيَّان .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } يعني : إبراهيم ، وذلك لقوله : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكََ } [ البقرة : 128 ] .

قال ابن جرير : وهذا لا وجه له ؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسمّ هذه الأمة في القرآن مسلمين ، وقد قال الله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر ، { وَفِي هَذَا } يعني : القرآن . وكذا قال غيره .

قلت : وهذا هو الصواب ؛ لأنه تعالى قال : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نَوّه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان ، في كتب الأنبياء ، يتلى على الأحبار والرهبان ، فقال : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل هذا القرآن { وَفِي هَذَا } ، وقد قال النسائي عند تفسير هذه الآية :

أنبأنا هشام بن عمار ، حدثنا محمد بن شُعَيب ، أنبأنا معاوية بن سلام{[20426]} أن أخاه زيد بن سلام أخبره ، عن أبي سلام أنه أخبره قال : أخبرني الحارث الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جِثيّ جهنم " . قال رجل : يا رسول الله ، وإن صام وصلى ؟ قال : " نعم ، وإن صام وصلى ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله " {[20427]} .

وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } من سورة البقرة [ الآية : 21 ] ؛ ولهذا قال : { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }

أي : إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عُدولا{[20428]} خيارا ، مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم ، لتكونوا يوم القيامة { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها{[20429]} على كل أمة سواها ؛ فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة ، في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم ، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك . وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] ، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته .

وقوله : { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } أي : قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها ، وأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض ، وطاعة ما أوجب ، وترك ما حرم . ومن أهم ذلك إقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة ، وهو الإحسان إلى خلق الله ، بما أوجب ، للفقير على الغني ، من إخراج جزء نزر من ماله في السَّنة للضعفاء والمحاويج ، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة " التوبة " {[20430]} .

وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ } أي : اعتضدوا بالله{[20431]} ، واستعينوا به ، وتوكلوا{[20432]} عليه ، وتَأيَّدوا به ، { هُوَ مَوْلاكُمْ } أي : حافظكم وناصركم ومُظفركُم على أعدائكم ، { فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } يعني : [ نعم ]{[20433]} الولي ونعم الناصر من الأعداء .

قال وُهَيْب بن الورد : يقول الله تعالى : ابن آدم ، اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا غضبتُ ، فلا أمحقك فيمن أمحق ، وإذا ظُلمتَ فاصبر ، وارض بنصرتي ، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك . رواه ابن أبي حاتم .

والله تعالى أعلم وله الحمد والمنة ، والثناء الحسن والنعمة ، وأسأله التوفيق والعصمة ، في سائر الأفعال والأقوال .

ختام السورة:

هذا آخر تفسير سورة " الحج " ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم ، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين{[1]} .


[1]:زيادة من أ.
[20422]:- في ت : "عليه الصلاة والسلام" ، وفي ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
[20423]:- رواه أحمد في مسنده (5/266) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
[20424]:- رواه البخاري في صحيحه برقم (3038) ومسلم في صحيحه برقم (1732).
[20425]:- زيادة من ت ، ف.
[20426]:- في ت : "سالم".
[20427]:- سنن النسائي الكبرى برقم (11349).
[20428]:- في أ : "عدلا".
[20429]:- في أ : "بسيادتهم وفضلهم".
[20430]:- انظر تفسير الآية : 60 من سورة التوبة.
[20431]:- في أ : "به".
[20432]:- في أ : "اتكلوا".
[20433]:- زيادة من ت.