قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله } الآية . قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام ، وأسد ، وأسيد ، ابني كعب ، وثعلبة بن قيس ، وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام ، وشلمة بن أخيه ، ويامين بن يامين . فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنا نؤمن بك ، وبكتابك ، وبموسى ، والتوراة ، وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب ، والرسل . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل آمنوا بالله ، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن ، وبكل كتاب كان قبله ) . فأنزل الله هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن ، وبموسى عليه السلام ، والتوراة ، { آمنوا بالله ورسوله } محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { والكتاب الذي نزل على رسوله } ، يعني القرآن .
قوله تعالى : { والكتاب الذي أنزل من قبل } ، من التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، وسائر الكتب . قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، " نزل " و " أنزل " بضم النون والألف ، وقرأ الآخرون : " نزل ، وأنزل " بالفتح . أي أنزل الله .
قوله تعالى : { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً } ، فلما نزلت هذه الآية قالوا : فإنا نؤمن بالله ، ورسوله ، والقرآن ، وبكل رسول ، وكتاب كان قبل القرآن ، والملائكة واليوم الآخر ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . وقال الضحاك : أراد به اليهود ، والنصارى ، يقول : { يا أيها الذين آمنوا } بموسى وعيسى ، { آمنوا } بمحمد والقرآن . وقال مجاهد : أراد به المنافقين ، يقول : يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب ، وقال أبو العالية وجماعة : هذا خطاب للمؤمنين يقول : { يا أيها الذين آمنوا آمِنوا } ، أي أقيموا ، واثبتوا على الإيمان ، كما يقال للقائم : قم حتى أرجع إليك ، أي اثبت قائماً ، قيل : المراد به أهل الشرك ، يعني : { يا أيها الذين آمنوا } باللات والعزى { آمنوا } بالله ورسوله .
ثم أمر الله - تعالى - المؤمنين أن يثبتوا على إيمانهم فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } أى : يأيها المؤمنون اثتبوا على إيمانكم وداوما على تصديقكم بوحدانية الله - تعالى - وعلى تصديقكم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذى نزله الله - تعالى - عليه وهو القرآن ، وبالكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على الرسول الذين أرسلهم من قبله .
والمراد بالكتاب الذى أنزله على الرسل من قبله جنس الكتب السماوية كالتوراة والإِنجيل والزبور .
ثم بين - سبحانه - سوء مصير من يكفر بشئ مما يجب الإِيمان به فقال - تعالى - : { وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } .
أى : ومن يكفر بالله بأن الله بأن يجحد وحدانيته وألوهيته ، ولا يخلص له العبادة ، ويكفر بملائكته بأن ينكر بأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ويكفر بكتبه التى أنزلها - سبحانه ، على أنبيائه ، وبرسوله الذين أرسلهم لهداية الخلق . وباليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، من يكفر بكل ذلك فقد خرج عن طريق الهدى وبعد عن السبيل القويم بعداً كبيراً ، لأنه بكفره بذلك يكون قد خالف الفطرة ، وانحرف عما يقتضيه العقل السليم ، وأوغل فى الشرور والآثام إيغالا شديدا ، يؤدى به إلى خزى الدنيا وعذاب الآخرة .
وبعد هذه الأوامر السديدة للمؤمنين . عادت السورة الكريمة إلى تحذيرهم من أعدائهم ومن المنافقين ، فكشفت لهم عن طبيعتهم ، ونهتهم عن القعود معهم ، وبينت لهم أنماطا من خداعهم ، وألوانا من أخلاقهم الذميمة ، وأخبرتهم عن سوء مصير أولئك المنافقين فى الغى والضلال .
واستمع إلى السورة الكريمة وهى تحكى كل ذلك بأسلوبها الحكيم فتقول { إِنَّ الذين آمَنُواْ . . . . شَاكِراً عَلِيماً } .
( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ، والكتاب الذي نزل على رسوله ، والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . . فقد ضل ضلالا بعيدًا ) . .
إنه النداء الثاني للذين آمنوا . بصفتهم هذه التي تفردهم من الجاهلية حولهم . وتحدد وظيفتهم وتكاليفهم . وتصلهم بالمصدر الذي يستمدون منه القوة والعون على هذه التكاليف !
( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ، والكتاب الذي نزل على رسوله ، والكتاب الذي أنزل من قبل ) . .
فهو بيان لعناصر الإيمان التي يجب أن يؤمن بها الذين آمنوا . بيان للتصور الإسلامي الاعتقادي :
فهو إيمان بالله ورسوله . يصل قلوب المؤمنين بربهم الذي خلقهم ، وأرسل إليهم من يهديهم إليه ، وهو الرسول [ ص ] وإيمان برسالة الرسول وتصديقه في كل ما ينقله لهم عن ربهم الذي أرسله .
وهو إيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله . يربطهم بالمنهج الذي اختاره الله لحياتهم وبينه لهم في هذا الكتاب ؛ والأخذ بكل ما فيه ، بما أن مصدره واحد ، وطريقه واحد ؛ وليس بعضه بأحق من بعضه بالتلقي والقبول والطاعة والتنفيذ .
وهو إيمان بالكتاب الذي أنزل من قبل . بما أن مصدر الكتب كلها واحد هو الله ؛ وأساسها كذلك واحد هو إسلام الوجه لله ؛ وإفراد الله سبحانه بالألوهية - بكل خصائصها - والإقرار بأن منهج الله وحده هو الذي تجب طاعته وتنفيذه في الحياة . . وهذه الوحدة هي المقتضى الطبيعي البديهي لكون هذه الكتب - قبل تحريفها - صادرة كلها عن الله . ومنهج الله واحد ، وإرادته بالبشر واحدة ، وسبيله واحد ، تتفرق السبل من حولها وهي مستقيمة إليه واصلة .
والإيمان بالكتاب كله - بوصف أن الكتب كلها كتاب واحد في الحقيقة - هو السمة التي تنفرد بها هذه الأمة المسلمة . لأن تصورها لربها الواحد ، ومنهجه الواحد ، وطريقه الواحد ، هو التصور الذي يستقيم مع حقيقة الألوهية . ويستقيم مع وحدة البشرية . ويستقيم مع وحدة الحق الذي لا يتعدد . . والذي ليس وراءه إلا الضلال ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ ) .
وبعد الأمر بالإيمان ، يجيء التهديد على الكفر بعناصر الإيمان ، مع التفصيل فيها في موضع البيان قبل العقاب :
( ومن يكفر بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، فقد ضل ضلالا بعيدًا ) . .
وقد ذكر في الأمر الأول الإيمان بالله وكتبه ورسله . ولم يذكر الملائكة . وكتب الله تتضمن ذكر الملائكة وذكر اليوم الآخر ، ومن مقتضى الإيمان بهذه الكتب الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر . ولكنه يبرزها هنا ، لأنه موطن الوعيد والتهديد ، الذي يبين فيه كل عنصر على التحديد .
والتعبير بالضلال البعيد غالبا يحمل معنى الإبعاد في الضلال ، الذي لا يرجى معه هدى ؛ ولا يرتقب بعده مآب !
والذي يكفر بالله الذي تؤمن به الفطرة في أعماقها كحركة ذاتية منها واتجاه طبيعي فيها ، ويكفر بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، استمدادا من كفره بالحقيقة الأولى . . الذي يكفر هذا الكفر تكون فطرته قد بلغت من الفساد والتعطل والخراب ، الحد الذي لا يرجى معه هدى ؛ ولا يرتقب بعده مآب !
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه ، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل ، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه . كما يقول المؤمن في كل صلاة : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] أي : بَصِّرنا فيه ، وزدنا هدى ، وثبتنا عليه . فأمرهم بالإيمان به وبرسوله ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ } [ الحديد : 28 ] .
وقوله : { وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ } يعني : القرآن { وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة ، وقال في القرآن : { نزلَ } ؛ لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع ، بحسب ما يحتاج إليه العباد إليه في معادهم ومعاشهم ، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة ؛ ولهذا قال : { وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } ثُمَّ قَالَ { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا } أي : فقد خرج عن طريق الهدى ، وبعد عن القصد كل البعد .