اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا} (136)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً }{[10087]}

في اتَّصال هذه الآية بما قَبْلَها وَجْهَان :

أحدُهما : أنَّها مُتِّصِلةٌ بقوله : { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } [ النساء : 135 ] لأن الإنْسان لا يكون قَائِماً بالقِسْط ، إلا إذا كان راسخاً في الإيمان بالأشْيَاء المَذْكُورة في هَذِه الآيَة .

الثاني : أنه - تعالى - لمَّا بين الأحْكَام الكَثِيرة في هَذِه السُّورة ، ذكر عَقِيبَهَا الأمر بالإيمانِ ، وفي هذا الأمْر وُجُوه :

أحدُها : قال الكَلْبِيُّ ، عن أبِي صَالحٍ ، عن ابن عبَّاسٍ : نزلت هذه الآيَة في عَبْد اللَّه ابن سلام ، وأسد وأسَيْد ابْنَيْ كَعْب ، وثَعْلَبَة بن قَيْس ، وسلام ابن أُخْت عَبْد الله بن سلام ، وسلَمة ابن أخِيه ، ويامِين بن يَامِين ، فَهُؤلاء مُؤمِنُو أهْل الكِتَاب أتوا رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقالوا{[10088]} : إنَّا نُؤمِنُ بك ، وبِكتابِك ، وبِمُوسى ، [ والتَّوْرَاة ]{[10089]} وبِعُزَيْر ، ونكفر بما سِوَاه من الكُتُب والرُّسُل ، فقال لهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم : " بل آمِنُوا باللَّه ، ورسُوله محمَّد ، والقُرْآن ، وبكل كِتَابٍ قَبْلَه " فقالوا : لا نَفْعَل ، فأنزل اللَّه : { يا أيها الذين آمنوا } يعني : بمحمّد [ والقُرآن ]{[10090]} وبموسى والتَّوْرَاة ، { آمنوا بالله ورسوله } : محمد { وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } : من التَّوْراة ، والإنْجِيل ، والزَّبُور ، وسائر الكُتُب{[10091]} ؛ لأن المراد بالكِتَاب الجنس .

وقيل : الخِطَاب مع المُنَافِقِين ، والتَّقْدير : يأيُّهَا الذين آمَنُوا باللِّسان ، آمنوا بالقَلْب ، ويؤيده قوله - تعالى - : { مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [ المائدة : 41 ] .

وقيل : خِطَاب مع الَّذِين آمَنُوا وَجْه النَّهَار ، وكَفَرُوا آخِره ، والتقدير : يأيُّهَا الَّذِين آمَنُوا وجْه النَّهارِ ، آمنوا آخِره .

وقيل : الخطاب للمُشْرِكين ، تقديره : يأيُّها الذين آمَنُوا باللاَّتِ والعُزَّى ، آمِنُوا .

وقيل : المعنى : يأيها الذين آمَنُوا ، دُومُوا على الإيمان ، واثْبُتُوا عليْه ، أي : يأيُّها الذين آمَنُوا في المَاضِي والحَاضِر ، آمِنُوا في المُسْتَقْبَل ؛ كقوله : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ }

[ محمد : 19 ] مع أنه كان عَالِماً بذلك .

وقيل : المُراد ب " الذين آمَنُوا " : جميع النَّاس ، وذلك يوم أخذ عَلَيْهم المِيثَاق .

وقيل : يا أيُّها الَّذِين آمَنُوا على سبيل التَّقْلِيدِ ، آمِنُوا على سبيل الاسْتِدْلاَل .

وقيل : يا أيها الَّذِين آمَنُوا بِحَسَب الاسْتِدْلاَلات الإجْمَاليَّةِ{[10092]} ، آمِنُوا بحسَبِ الدَّلائل التَّفْصيليَّة .

وقرأ نافعُ والكوفيون{[10093]} : { والكتاب الَّذِي نزَّل على رَسُوله والكِتَاب الذي أنْزل من قبل } على بناء الفِعْليْن للفَاعِل ، وهو الله - تعالى - ، [ وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو : ] على بنائهما للمَفْعُول ، والقائمُ مقامَ الفَاعِل ضَمِير الكِتَاب .

وحُجَّة الأوَّلِين : قوله - تعالى - : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } [ الحجر : 9 ] ، وقوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ } [ النحل : 44 ] ، وحجة الضم : قوله - تعالى - : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }

[ النحل : 44 ] ، وقوله : { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ [ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ] } {[10094]} [ الأنعام : 114 ] .

قال بعض العلماء{[10095]} : كلاهما حَسَن ، إلا أن الضَّمَّ أفْخَمُ ، كقوله : { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ } [ هود : 44 ] .

وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قُلْتَ [ لِمَ ]{[10096]} قال : { نَزَّل على رسُوله } ، و { أَنزَلَ مِن قَبْل } ؟ .

قلت : " لأنَّ القرآن نَزَل مُنَجَّماً مفرَّقاً في عِشْرِين سَنَة ، بخلاف الكُتُب قَبْله " ، وقد تَقَدَّم البَحْث معه في ذَلِكَ ، عند قوله - تعالى - : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ } [ آل عمران : 3 ] وأن التَّضْعِيف في " نزَّلَ " للتَّعْدِية ، مرادفٌ للهَمْزَة لا للتَّكْثِير .

فصل

اعلم : أنه [ تعالى ]{[10097]} أمَرَ في هذه الآيَة بالإيمَانِ بأرْبَعة أشْيَاء :

أوّلها : بالله .

وثانيها : برسوله .

وثالثها : بالكتاب الذي نزَّل على رسُوله .

ورابعها : [ بالكتاب الَّذِي أنْزَل من قَبْل . وذكر في الكُفْر أمُوراً خَمْسةً :

أولها : الكُفْر باللَّه .

وثانيها : الكُفْر بملائِكَتِهِ .

وثالثها : الكُفْر بكُتُبِه ]{[10098]} .

ورابعها : الكُفْر برسُله .

وخامسها : الكُفْر باليوم الآخر .

ثم قال : { فقد ضل ضلالاً بعيداً } وهاهنا سُؤالات :

السُّؤال الأوَّل : لِمَ قدَّم في مراتب الإيمانِ{[10099]} ذكر الرَّسُول على ذكر الكِتَابِ ، وفي مراتب الكُفْر قَلَب القضيَّة ؟ .

والجواب : لأن في{[10100]} مرتبة النُّزُول من الخَالِق إلى الخَلْق كان{[10101]} الكتاب مقدماً على الرسول ، وفي مرتبه العُرُوج من الخَلْق إلى الخَالِقِ ، يكُون الرَّسُول مُقَدَّماً على الكِتَاب .

السُّؤال الثَّاني : لِمَ ذكر في مراتب الإيمان أموراً ثلاثة : الإيمان بالله ، وبالرسل ، وبالكتب ، وذكر في مَرَاتِب الكُفْر [ أموراً خَمْسَة : الكُفْر ]{[10102]} باللَّه ، وبالملائكة ، وبالرُّسُل ، [ وبالكُتُب ]{[10103]} ، وباليَوْم الآخِر ؟ .

والجواب : لأنَّ الإيمان [ باللَّه و ]{[10104]} بالرُّسُل ، وبالكُتُب متى حَصَل ، فقد حَصَل الإيمان بالملائِكَة ، وباليوم الآخر لا مَحَالَة ، إذ رُبَّما ادّعى الإنْسَان أنه يُؤمِن باللَّه ، وبالرُّسُل ، وبالكُتُب ، ثم إنَّه يُنْكِرُ الملائكة ، وينكر اليَوْم الآخر ، ويزعم أنَّ الآيات الوَارِدَة في المَلائكة وفي اليوم الآخر ، مَحْمُولَة على التَّأوِيل .

فلما احتمل هذا ؛ لا جرم نصَّ على أن مُنْكِر المَلاَئِكَة ، ومنكر اليَوْم الآخِر ، كافرٌ باللَّه .

السؤال الثالث : كيف قِيلَ لأهلِ الكِتَاب : { وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } مع أنهم كانوا مُؤمنين بالتوراة والإنجيل ؟ .

والجواب : ما تقدَّم من أن المراد بالكِتَاب : الجنس ، فأمِرُوا أن يُؤمِنُوا بكل الكُتُب ؛ لأنَّهم لم يُؤمِنُوا بكُلِّها ؛ كما قالوا : نُؤمِنُ بِبَعْضٍ ونكْفُر ببعضٍ ، وأما قوله : { فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } ليس جواباً للأشياء المَذْكُورة ، بل المعنى : ومنْ يكْفُرْ بواحدٍ مِنْهَا .


[10087]:سقط في ب.
[10088]:في ب: قالوا.
[10089]:سقط في ب.
[10090]:سقط في أ.
[10091]:أخرجه الثعلبي في "تفسيره" من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" (2/414).
[10092]:في أ: الجملية.
[10093]:ينظر: السبعة 239، والحجة 3/186، 187، وحجة القراءات 216، 217 والعنوان 85، وإعراب القراءات 1/138، وشرح الطيبة 4/219، 220، وشرح شعلة 345، وإتحاف 1/522.
[10094]:سقط في أ.
[10095]:ينظر: تفسير الرازي 11/60.
[10096]:سقط في ب.
[10097]:سقط في أ.
[10098]:سقط في ب.
[10099]:في أ: الرسول.
[10100]:في ب: لأن فيه.
[10101]:في ب: كما أن.
[10102]:سقط في أ.
[10103]:سقط في ب.
[10104]:سقط في أ.