قوله تعالى : { كذلك يوحي إليك } وقرأ ابن كثير يوحى بفتح الحاء وحجته قوله : { أوحينا إليك } { وإلى الذين من قبلك } ( الزمر-65 ) ، وعلى هذه القراءة . قوله ، { الله العزيز الحكيم } تبين للفاعل كأنه قيل : من يوحي ؟ فقيل : الله العزيز الحكيم ، وقرأ الآخرون يوحي بكسر الحاء ، إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم . قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أخبار الغيب .
والكاف فى قوله - تعالى - : { كَذَلِكَ } بمعنى مثل ، واسم الإِشارة يعود إلى ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من عقائد وأحاكم وآداب .
أى : مثل ما فى هذه السورة الكريمة من دعوة إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، أوحى الله به إليك وإلى الرسل من قبلك ، لتبلغوه للناس كى يعتبروا ويتعظوا .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - : {
كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } كلام مستأنف ، وارد لتحقيق أن مضمون السورة ، موافق لما فى تضاعيف الكتب المنزلة ، على سائر الرسل المتقدمين فى الدعوة إلى التوحيد والإِرشاد إلى الحق .
والكاف مفعول { يوحي } أى : يوحى مثل ما فى هذه السورة من المعانى . .
وجئ بقوله : { يوحي } بدل { أوحى } للدلالة على استمراره فى الماضى ، وأن إيحاء مثله ، عادته - تعالى - :
و { العزيز الحكيم } صفتان له - عز وجل - .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }
( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) . .
أي مثل ذلك ، وعلى هذا النسق ، وبهذه الطريقة يكون الوحي إليك وإلى الذين من قبلك . فهو كلمات وألفاظ وعبارات مصوغة من الأحرف التي يعرفها الناس ويفهمونها ويدركون معانيها ؛ ولكنهم لا يملكون أن يصوغوا مثلها مما بين أيديهم من أحرف يعرفونها .
ومن الناحية الأخرى تتقرر وحدة الوحي . وحدة مصدره فالموحي هو الله العزيز الحكيم . والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان . والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمان : ( إليك وإلى الذين من قبلك ) . .
إنها قصة بعيدة البداية ، ضاربة في أطواء الزمان . وسلسلة كثيرة الحلقات ، متشابكة الحلقات . ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع .
وهذه الحقيقة - على هذا النحو - حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته ، ووحدة مصدره وطريقه . وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي : ( الله العزيز الحكيم ) . . كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان ، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ ، وتمتد جذورها في شعاب الزمن ؛ وتتصل كلها بالله في النهاية ، فيلتقون فيه جميعاً . وهو( العزيز )القوي القادر( الحكيم )الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير . فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى الله ؛ ولا يعرف لها مصدر ، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم ?
وقوله : كَذَلَكَ يُوحِي إلَيْكَ وَإلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ يقول تعالى ذكره : هكذا يوحِي إليك يا محمد وإلى الذين من قبلك من أنبيائه . وقيل : إن حم عين سين ق أوحيت إلى كلّ نبيّ بُعث ، كما أُوحيت إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قيل : كَذَلَكَ يُوحِي إلَيْكَ وإلى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللّهُ العَزِيزُ في انتقامه من أعدائه الحَكِيمُ في تدبيره خلقه .
موقع الإشارة في قوله : { كذلك يوحي إليك } كموقع قوله : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) . والمعنى : مِثْلَ هذا الوحي يُوحِي الله إليك ، فالمشار إليه : الإيحاء المأخوذ من فعل { يوحي } .
وأما { وإلى الذين من قبلك } فإدماج . والتشبيه بالنسبة إليه على أصله ، أي مثل وحيه إليك وحيه إلى الذين من قبلك ، فالتشبيه مستعمل في كلتا طريقتيه كما يستعمل المشترك في معنييه . والغرض من التشبيه إثبات التسوية ، أي ليس وحي الله إليك إلا على سنة وحيه إلى الرّسل من قبلك ، فليس وحيه إلى الرّسل من قبلك بأوضح من وحيه إليك . وهذا كقوله تعالى : { إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] ، أي ما جاء به من الوحي إن هو إلا مِثلُ ما جاءت به الرّسل السابقون ، فما إعراض قومه عنه إلا كإعراض الأمم السالفة عما جاءت به رسلهم . فحصل هذا المعنى الثاني بغاية الإيجاز مع حسن موقع الاستطراد .
وإجراء وصفي { العزيز الحكيم } على اسم الجلالة دون غيرهما لأن لهاتين الصفتين مزيدَ اختصاص بالغرض المقصود من أن الله يصطفي من يشاء لرسالته . ف { العزيز } المتصرف بما يريد لا يصده أحد . و { الحكيم } يُحَمِّل كلامَه معاني لا يبلغ إلى مثلها غيرُه ، وهذا من متممات الغرض الذي افتتحت به السورة وهو الإشارة إلى تحدّي المعاندين بأن يأتوا بسورة مثل سور القرآن .
وجملة { كذلك يوحي إليك } إلى آخرها ابتدائية ، وتقديم المجرور من قوله { كذلك } على { يوحي إليك } للاهتمام بالمشار إليه والتشويق بتنبيه الأذهان إليه ، وإذ لم يتقدم في الكلام ما يحتمل أن يكون مشاراً إليه ب { كذلك } عُلم أن المشار إليه مقدر معلوم من الفعل الذي بعد اسم الإشارة وهو المصدر المأخوذ من الفعل ، أي كذلك الإيحاء يوحي إليك الله . وهذا استعمال متّبع في نظائر هذا التركيب كما تقدم في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) . وأحسب أنّه من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثله في كلام العرب قبل القرآن . وما ذكره الخفاجي في سورة البقرة من تنظيره بقول زهير :
كذلك خِيمهم ولكلِّ قوم *** إذا مسَّتهم الضّراء خِيم
لا يصحّ لأن بيْت زهير مسبوق بما يصلح أن يكون مشاراً إليه ، وقد فاتني التنبيه على ذلك فيما تقدم من الآيات فعليك بضم ما هنا إلى ما هنالك .
والجار والمجرور صفة لمفعول مطلق محذوف دلّ عليه { يوحي } أي إيحاءً كذلك الإيحاء العجيب . والعدول عن صيغة الماضي إلى صيغة المضارع في قوله : { يوحي } للدلالة على أن إيحاءه إليه متجدد لا ينقطع في مدة حياته الشريفة لييأس المشركون من إقلاعه بخلاف قوله : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } [ الشورى : 52 ] وقوله : { وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً } [ الشورى : 7 ] إذ لا غرض في إفادة معنى التجدد هناك .
وأمّا مراعاة التجدّد هنا فلأنَّ المقصود من الآية هو ما أوحي به إلى محمّد صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وأنَّ قوله : { إلى الذين من قبلك } إدماج .
ولك أن تعتبر صيغة المضارع منظوراً فيها إلى متعلِّقي الإيحاء وهو { إليك } و { إلى الذين من قبلك } ، فتجعل المضارع لاستحضار الصورة من الإيحاء إلى الرّسل حيث استبعد المشركون وقوعه فجعل كأنّه مشاهد على طريقة قوله تعالى : { الله الذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] وقوله : { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] .
وقرأ الجمهور { يوحي } بصيغة المضارع المبني للفاعل واسم الجلالة فاعل . وقرأه ابن كثير { يوحَى } بالبناء للمفعول على أن { إليك } نائب فاعل ، فيكون اسم الجلالة مرفوعاً على الابتداء بجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنّه لما قال : يوحى إليك ، قيل : ومن يُوحيه ، فقيل : الله العزيز الحكيم ، أي يوحيه الله على طريقة قول ضِرار بن نَهشل{[365]} أو الحارث بن نهيك{[366]} :