قوله تعالى : { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم } أي : لئلا تميد بكم . أي : تتحرك وتميل . والميد : هو الاضطراب والتكفؤ ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحر : ميد . قال وهب : لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال . { وأنهاراً و سبلاً } أي : وجعل فيها أنهاراً وطرقاً مختلفة ، { لعلكم تهتدون } ، إلى ما تريدون فلا تضلون .
ولفظ : { رواسى } جمع راس من الرسو - بفتح الراء وسكون السين - بمعنى الثبات والتمكن فى المكان ، يقال رسا الشئ يرسو إذا ثبت . وهو صفة لموصوف محذوف . أى : جبالا رواسى .
و { تميد } أى تضطرب وتميل . يقال : ماد الشئ يميد ميدا ، إذا تحرك ، ومادت الأغصان إذا تمايلت أى : وألقى - سبحانه - فى الأرض جبالا ثوابت لكى تقر وتثبت ولا تضطرب .
فقوله { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } تعليل لإِلقاء الجبال فى الأرض .
قال القرطبى : وروى الترمذى بسنده عن أنس بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتضطرب ، فخلق الجبال عليها فاستقرت ، فعجبت الملائكة من شدة الجبال . قالوا يارب هل من خلقك شئ أشد من الجبال ؟ قال نعم ، الحديد . قالوا يارب فهل من خلقك شئ أشد من الحديد ؟ قال نعم النار . قالوا يارب فهل من خلقك شئ أشد من النار ؟ قال نعم الماء ، قالوا يارب فهل من خلقك شئ أشد من الماء ؟ قال نعم الريح . قالوا يارب : فهل من خلقك شئ أشد من الريح ؟ قال نعم ، ابن آدم إذا تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله " .
هذا ، ومن الآيات التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى - : { خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ . . } وقوله - تعالى - : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً والجبال أَوْتَاداً } ثم بين - سبحانه - نعما أخرى لما ألقاه فى الأرض فقال : { وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } . أى : وجعل فى الأرض { أنهارا } تجرى من مكان إلى آخر ، فهى تنبع فى مواضع . وتصب فى مواضع أخرى ، وفيها نفع عظيم للجميع ، إذ منها يشرب الناس والدواب والأنعام والنبات .
وجعل فيها كذلك طرقا ممهدة ، يسير فيها السائرون من مكان إلى آخر . { لعلكم تهتدون } بتلك السبل إلى المكان الذى تريدون الوصول إليه . بدون تحير أو ضلال .
وقد كرر القرآن الكريم هذا المعنى فى آيات كثيرة ، منها قوله تعالى - : { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً }
والفوج الأخير في هذا المقطع من السورة :
( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ، وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون . وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) .
فأما الجبال الرواسي فالعلم الحديث يعلل وجودها ولكنه لا يذكر وظيفتها التي يذكرها القرآن هنا يعلل وجودها بنظريات كثيرة متعارضة أهمها أن جوف الأرض الملتهب يبرد فينكمش ، فتتقلص القشرة الأرضية من فوقه وتتجعد فتكون الجبال والمرتفعات والمنخفضات . ولكن القرآن يذكر أنها تحفظ توازن الأرض . وهذه الوظيفة لم يتعرض لها العلم الحديث .
وفي مقابل الجبال الرواسي يوجه النظر إلى الأنهار الجواري ، والسبل السوالك . والأنهار ذات علاقة طبيعية في المشهد بالجبال ، ففي الجبال في الغالب تكون منابع الأنهار ؛ حيث مساقط الأمطار . والسبل ذات علاقة بالجبال والأنهار . وذات علاقة كذلك بجو الأنعام والأحمال والانتقال .
{ وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لّعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن نِعمه عليكم أيها الناس أيضا ، أن ألقى في الأرض رواسي ، وهي جمع راسية ، وهي الثوابت في الأرض من الجبال . وقوله : أنْ تَمِيدَ بِكُمْ يعني : أن لا تميد بكم ، وذلك كقوله : يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا ، والمعنى : أن لا تضلوا . وذلك أنه جلّ ثناؤه أرسى الأرض بالجبال لئلا يميد خلقه الذي على ظهرها ، بل وقد كانت مائدة قبل أن تُرْسى بها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد : أن الله تبارك وتعالى لما خلق الأرض جعلت تمور ، قالت الملائكة : ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا فأصبحت صبحا وفيها رواسيها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : لما خلق الله الأرض قَمَصَت ، وقالت : أي ربّ أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث ؟ قال : فأرسى الله عليها من الجبال ما ترون وما لا ترون ، فكان قرارها كاللحم يترجرج .
والميد : هو الاضطراب والتكفؤ ، يقال : مادت السفينة تميد ميدا : إذا تكفأت بأهلها ومالت ، ومنه الميد الذي يعتري راكب البحر ، وهو الدوار .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنْ تَمِيدَ بِكُمْ : أن تكفأ بكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله : وألْقَى فِي الأرْضِ روَاسِيَ أنْ تَمِيدُ بِكُمْ قال : الجبال أن تميد بكم . قال : قتادة : سمعت الحسن يقول : لما خلقت الأرض كادت تميد ، فقالوا : ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا فأصبحوا وقد خُلقت الجبال ، فلم تدر الملائكة مم خُلقت الجبال .
وقوله : وأنهَارا يقول : وجعل فيها أنهارا ، فعطف بالأنهار على الرواسي ، وأعمل فيها ما أعمل في الرواسي ، إذ كان مفهوما معنى الكلام والمراد منه وذلك نظير قول الراجز :
تَسْمَعُ في أجْوَافِهِنّ صَوْرَا *** وفي اليَدَيْنِ حَشّةً وبَوْرَا
والحشة : اليُبس ، فعطف بالحشة على الصوت ، والحشة لا تسمع ، إذ كان مفهوما المراد منه وأن معناه وترى في اليدين حَشّةً .
وقوله : وَسُبُلاً وهي جمع سبيل ، كما الطرق جمع طريق . ومعنى الكلام : وجعل لكم أيها الناس في الأرض سُبلاً وفجاجا تسلكونها وتسيرون فيها في حوائجكم وطلب معايشكم رحمة بكم ونعمة منه بذلك عليكم ولو عماها لهلكتم ضلالاً وحيرة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : سُبُلاً : أي طرقا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : سُبُلاً قال : طرقا . وقوله لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ يقول : لكي تهتدوا بهذه السبل التي جعلها لكم في الأرض إلى الأماكن التي تقصدون والمواضع التي تريدون ، فلا تضلوا وتتحيروا .
وقوله { وألقى في الأرض } الآية ، قال المتأولون { ألقى } بمعنى خلق وجعل .
قال القاضي أبو محمد : وهي عندي أخص من خلق وجعل ، وذلك أن { ألقى } تقتضي أن الله أحدث الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه ، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن عن قيس بن عباد ، أن الله تعالى لما خلق الأرض ، وجعلت تمور ، فقالت الملائكة ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً ، فأصبحت ضحى وفيها رواسيها . و «الرواسي » الثوابت ، رسا الشيء يرسو إذا ثبت ، ومنه قول الشاعر في صفة الوتد :
وأشعث ترسيه الوليدة بالفهد{[7267]} . . . و { أن } مفعول من أجله ، و «الميد » الاضطراب ، وقوله { أنهاراً } منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو وخلق أنهاراً . قال القاضي أبو محمد : وإجماعهم على إضمار هذه الفعل دليل على خصوص ل { ألقى } ولو كانت { ألقى } بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار ، و «السبل » الطرق ، وقوله { لعلكم تهتدون } في مشيكم وتصرفكم في السبل ، ويحتمل { لعلكم تهتدون } بالنظر في هذه المصنوعات على صانعها ، وهذا التأويل هو البارع ، أي سخر وألقى وجعل أنهاراً وسبلاً لعل البشر يعتبر ويرشد ولتكون علامات .