ثم ساق - سبحانه - أدلة أخرى على وحدانيته وقدرته فقال : { وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ . . . } .
الوراسى : جمع راسية ، من رسا الشىء إذا ثبت ورسخ ، والمراد بها الجبال الثابتة الراسخة فى الأرض .
أى : وجعلنا فى الأرض جبالا ثوابت ، كراهة أن { تَمِيدَ بِهِمْ } أى : أن تضطرب وتتحرك بهم الأرض . يقال : ماد الشىء يميد ميدا - من باب باع - إذا تحرك واهتز .
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ، والفجاج .
والسبل : جمع سبيل وهو الطريق . وهو بدل من { فِجَاجاً } .
أى : وجعلنا فى الأرض طرقا واسعة ، ومنافذ متعددة ، لعلهم بذلك يهتدون ويتوصلون إلى الأماكن التى يريدون الوصول إليها . ويعلمون أن الذى وهبهم كل هذه النعم ، هو الله - تعالى - الذى يجب أن يخلصوا له العبادة والطاعة .
ثم يمضي في عرض مشاهد الكون الهائلة :
( وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ) . .
فيقرر أن هذه الجبال الرواسي تحفظ توازن الأرض فلا تميد بهم ولا تضطرب . وحفظ التوازن يتحقق في صور شتى . فقد يكون توازنا بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها ، وهو يختلف من بقعة إلى بقعة : وقد يكون بروز الجبال في موضع معادلا لانخفاض الأرض في موضع آخر . . وعلى أية حال فهذا النص يثبت أن للجبال علاقة بتوازن الأرض واستقرارها . فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتم بها هذا التوازن فذلك مجالها الأصيل . ولنكتف من النص القرآني الصادق باللمسة الوجدانية والتأمل الموحي ، وبتتبع يد القدرة المبدعة المدبرة لهذا الكون الكبير :
( وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ) . .
وذكر الفجاج في الجبال وهي الفجوات بين حواجزها العالية ، وتتخذ سبلا وطرقا . . ذكر هذه الفجاج هنا مع الإشارة إلى الاهتداء يصور الحقيقة الواقعة أولا ، ثم يشير من طرف خفي إلى شأن آخر في عالم العقيدة . فلعلهم يهتدون إلى سبيل يقودهم إلى الإيمان ، كما يهتدون في فجاج الجبال !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لّعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أو لم ير هؤلاء الكفار أيضا من حججنا عليهم وعلى جميع خلقنا ، أنا جعلنا في الأرض جبالاً راسية ؟ والرواسي : جمع راسية ، وهي الثابتة كما :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَجَعَلْنا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أي جبالاً .
وقوله : أنْ تَمِيدَ بِهِمْ يقول : أن لا تتكفأ بهم . يقول جلّ ثناؤه : فجعلنا في هذه الأرض هذه الرواسي من الجبال ، فثبتناها لئلا تتكفأ بالناس ، وليقدروا بالثبات على ظهرها . كما :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانوا على الأرضِ تمور بهم لا تستقرّ ، فأصبحوا وقد جعل الله الجبال وهي الرواسي أوتادا للأرض وجَعَلْنَا فيها فِجَاجا سُبُلاً يعني مسالك ، واحدها فجّ . كما :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجَعَلْنا فِيها فِجاجا : أي أعلاما . وقوله : سُبُلاً أي طرقا ، وهي جمع السبيل .
وكان ابن عباس فيما ذَكر عنه يقول : إنما عنى بقوله : وَجَعَلْنا فِيها فِجاجا وجعلنا في الرواسي ، فالهاء والألف في قوله : وَجَعَلْنا فِيها من ذكر الرواسي .
حدثنا بذلك القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : وَجَعَلْنا فِيها فِجاجا سبلاً ، قال : بين الجبال .
وإنما اخترنا القول الاَخر في ذلك وجعلنا الهاء والألف من ذكر الأرض ، لأنها إذا كانت من ذكرها دخل في ذلك السهل والجبل وذلك أن ذلك كله من الأرض ، وقد جعل الله لخلقه في ذلك كله فجاجا سبلاً . ولا دلالة تدلّ على أنه عنى بذلك فجاج بعض الأرض التي جعلها لهم سبلاً دون بعض ، فالعموم بها أولى .
وقوله : لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ يقول تعالى ذكره : جعلنا هذه الفجاج في الأرض ليهتدوا إلى السير فيها .
{ وجعلنا في الأرض رواسي } ثابتات من رسا الشيء إذا ثبت . { أن تميد بهم } كراهة أن تميل بهم وتضطرب ، وقيل لأن لا تميد فحذف لا لأمن الإلباس . { وجعلنا فيها } في الأرض أو الرواسي . { فجاجا سبلا } مسالك واسعة وإنما قدم فجاجا وهو وصف له ليصير حالا فيدل على أنه حين خلقها كذلك ، أو ليبدل منها { سبلا } فيدل ضمنا على أنه خلقها ووسعها للسابلة مع ما يكون فيه من التوكيد . { لعلهم يهتدون } إلى مصالحهم .
«الرواسي » جمع راسية أي ثابتة يقال رسا يرسو إذا ثبت واستقر ولا يستعمل إلا في الأجرام الكبار كالجبال والسفينة ونحوه{[8217]} ، ويروى أن الأرض كانت تكفأ بأهلها حتى ثقلها الله تعالى بالجبال فاستقرت ، و «الميد » التحرك ، و «الفجاج » الطرق المتسعة في الجبال وغيرها ، و { سبلاً } جمع سبيل ، والضمير في قوله تعالى : { فيها } يحتمل أن يعود على الرواسي ويحتمل أن يعود على { الأرض } وهو أحسن ، و { يهتدون } معناه في مسالكهم وتصرفهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.