الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ وَجَعَلۡنَا فِيهَا فِجَاجٗا سُبُلٗا لَّعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ} (31)

قوله : { أَن تَمِيدَ } مفعولٌ من أجله أي : أن لا تميدَ فَحُذِفَتْ " لا " لفَهْمِ المعنى ، أو كراهةَ أَنْ تميد . وقَدَّره أبو البقاء فقال : " مخافَةَ أن تميدَ " . وفيه نظرٌ لأنَّا إنْ جَعَلْنا المخافةَ مسندةً إلى المخاطبين أخْتَلَّ شرطٌ من شروطِ النصبِ في المفعولِ له وهو الفاعل . وإنْ جَعَلْناها مسندةً لفاعل الجَعْل استحال ذلك ، لأنَّه تبارك وتعالى لا يُسْنَدُ إليه الخوف . وقد يقال : يُختارُ أن تُسْنَدَ المخافةُ إلى المخاطبين . قولكم : يختلُّ شرطٌ من شروطِ النصب . جوابُه : أنه ليس بمنصوبٍ ، بل مجرورٌ بحرف العلةِ المقدرِ . / وحَذْفُ حرفِ الجر مُطَّردٌ مع أنْ وأنَّ بشرطه .

قوله : { فِجَاجاً سُبُلاً } في " فجاجاً " وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ به و " سُبُلا " بدلٌ منه . والثاني : أنه منصوب على الحال مِنْ " سبلاً " لأنه في الأصلِ صفةٌ له فلمَّا قُدِّم انتصبَ حالاً كقولِه :

لميَّةَ موحشاً طَلَلُ *** يلوحُ كأنَّه خِلَلُ

ويدلُّ على ذلك مجِيْئُه صفةً في الآية الأخرى ، وهي قولُه تعالى :

{ لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 20 ] . قال الزمخشري : " فإن قلت : في الفجاجِ معنى الوصفِ ، فما لها قُدِّمَتْ على السُّبُل ولم تُؤَخَّرْ ، كقولِه تعالى : { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } ؟ قلت : لم تُقَدَّم وهي صفةٌ ولكنْ جُعِلَتْ حالاً كقولِه :

لِعَزَّةَ مُوْحِشاً طَلَلٌ قديمُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإنْ قلتَ : ما الفرقُ بينهما من جهةِ المعنى ؟ قلتُ : أحدُهما أعلامٌ بأنه جَعَلَ فيها طرقاً واسعة . والثاني : أنه حينَ خَلَقها خَلَقها على تلك الصفةِ ، فهو بيانٌ لما أُبْهِم ثمةَ " .

قال الشيخ : " يعني بالإِبهامِ أنَّ الوصفَ لا يلزمُ أَنْ يكونَ الموصوفُ متصفاً به حالةَ الإِخبارِ عنه ، وإن كان الأكثرُ قيامَه به حالةَ الإِخبارِ عنه . ألا ترى أنه يُقال : مررتُ بوَحْشيٍّ القاتلِ حمزةَ ، وحالةَ المرورِ لم يكن قائماً به قَتْلُ حمزة " .

والفَجُّ : الطريقُ الواسعُ . والجمعُ : الفِجاجُ .

والضميرُ في " فيها " يجوزُ أن يعودَ على الأرض ، وهو الظاهرُ كقولِه :

{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 19-20 ] وأَنْ يعودَ على الرَّواسي ، يعني أنه جعل في الجبال طُرُقاً واسعة .