اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ وَجَعَلۡنَا فِيهَا فِجَاجٗا سُبُلٗا لَّعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ} (31)

قوله : { وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ } الرواسي الجبال ، والراسي : هو الداخل في الأرض{[28274]} . قوله : «أنْ تَمِيدَ » مفعول من أجله ، أي : أن لا تميد{[28275]} ، فحذفت «لا » لفهم المعنى كما زيدت في { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب }{[28276]} ، أو كراهة أن تميد{[28277]} وقدره أبو البقاء فقال : مخافة أن تميد{[28278]} وفيه نظر ، لأنا إن جعلنا المخافة مسندة إلى{[28279]} المخاطبين اختل شرط من شروط النصب في المفعول وهو اتحاد الفاعل{[28280]} . وإن جعلناها مسندة لفاعل الجعل استحال ذلك ، لأنه تعالى لا يسند إليه الخوف . وقد يقال يختار أن يسند المخافة إلى المخاطبين ، وقولكم يختل شرط من شروط النصب جوابه : أنه ليس بمنصوب بل مجرور بحرف الجر{[28281]} المقدر{[28282]} ، وحذف حرف الجر مطرد مع أنَّ وأَنْ بشرطه{[28283]} .

فصل

قال ابن عباس : إن الأرض بسطت على الماء فكانت تكفأ بأهلها السفينة فأرساها{[28284]} الله بالجبال الثقال{[28285]} . قوله : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } في " فجاجا " وجهان :

أحدهما : أنه ( مفعول به ){[28286]} و «سُبُلاً » بدل منه{[28287]} .

والثاني : أنه منصوب على الحال من «سُبُلاً »{[28288]} ، لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب كقوله :

3711- لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ*** يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ{[28289]}

ويدل على ذلك مجيئه صفة في قوله تعالى { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا س ُبُلاً فِجَاجاً }

وقال الزمخشري : فإن قلت : في الفجاج معنى الوصف فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كقوله تعالى : { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً }{[28290]} ، قلت : لم تقدم وهي صفة ، ولكن جعلت حالاً كقوله :

3712- لعزَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ قَدِيمُ{[28291]} *** . . .

فإن قلت : ما الفرق بينهما من جهة المعنى ؟ قُلْتُ : أحدهما : إعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة ، والثاني : أنه حين خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة{[28292]} . قال أبو حيان : يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفاً به حالة الإخبار عنه ، وإن كان{[28293]} الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه ، ألا ترى أنه يقال : مررت بوحشيّ القاتل حمزة ، وحالة{[28294]} المرور لم يمن قائماً به قتل حمزة{[28295]} . والفَجُّ الطَّرِيقُ الوَاسِعُ ، والجمع الفِجَاج{[28296]} . والضمير في «فيها » يجوز أن يعود على الأرض وهو الظاهر كقوله { والله{[28297]} جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً }{[28298]} {[28299]} . وأن يعود على الرواسي{[28300]} ، يعني أنه جعل في الجبال طرقاً واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال : كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرّقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً{[28301]} . وقوله { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي لكي يهتدوا{[28302]} إذ الشك لا يجوز على الله{[28303]} . والمعنى{[28304]} : ليهتدوا إلى البلاد . وقيل : ليهتدوا إلى وحدانية الله بالاستدلال قالت المعتزلة : وهذا يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء وقد تقدم .

وقيل : الاهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في أصل الاهتداء ، فيحمل اللفظ على ذلك المشترك مستعملاً في مفهوميه{[28305]} معاً{[28306]} .


[28274]:انظر الفخر الرازي 22/164.
[28275]:قاله الكوفيون. الكشاف 3/10، القرطبي 11/285.
[28276]:"الكتاب": سقط من ب. [الحديد: 29].
[28277]:قاله البصريون. معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/390، القرطبي 11/285.
[28278]:التبيان 2/917.
[28279]:إلى: سقط من ب.
[28280]:لأن من شروط النصب في المفعول له اتحاده بالمعلل به فاعلا بأن يكون فاعل الفعل وفاعل المصدر واحد. انظر شرح التصريح 1/335.
[28281]:في النسختين: العلة.
[28282]:كما قدره الكوفيون: لئلا. الكشاف 3/10.
[28283]:شرط حذف الجار مع (أنّ، وأنْ) أمن اللبس، نحو قوله تعالى: {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم} [الأعراف: 63، 69]. وقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران: 18] أي: من أن جاءكم، وبأنه فإن خيف اللبس امتنع الحذف كما في رغبت في أن تفعل أو عن أن تفعل، لإشكال المراد بعد الحذف. واطرد حذف حرف الجر مع (أنّ) و(أنْ) لطولهما بالصلة انظر المغني 2/640، الأشموني 2/91-92.
[28284]:في ب: وأرساها.
[28285]:انظر الفخر الرازي 22/164.
[28286]:ما بين القوسين سقط من ب.
[28287]:انظر التبيان 2/917.
[28288]:المرجع السابق.
[28289]:البيت من مجزوه الوافر لكثير، وهو في ديوانه 2/210 والكتاب 2/123، ومجالس العلماء 131، 132، والخصائص 2/492. ابن يعيش 2/50 المغني 1/85، وشذور الذهب 24، 253 ، المقاصد النحوية 3/163 شرح التصريح 1/375 وشرح شواهد المغني 1/349، شرح الأشموني 2/174 والخزانة 3/112. ميّة: اسم امرأة. الموحش: المنزل الذي صار قفرا لا أنيس به. الطلل: ما شخص من آثار الديار. خلل: جمع خلّة: وهي بطائن يغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب وغيره. والشاهد فيه نصب (موحشا) على الحال، وكان أصله صفة لـ (طلل) فقدمت على الموصوف فصارت حالا، وذلك لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها صارت حالا.
[28290]:?????
[28291]:صدر بيت من بحر الوافر قاله كثير، وعجزه: عفاه كل أسحم مستديم. وهو في ديوانه 2/210، ابن يعيش 2/62-64 وشرح التصريح 1/375، الخزانة 3/209 عفاه: درسه وغيره. الأسحم: الأسود، والمراد هنا السحاب لأنه إذا كان ذا ماء يرى أسود لامتلائه. المستديم: صفة (كل) وهو السحاب الممطر مطر الديمة. والديمة: مطرة أقلها ثلث النهار أو ثلث الليل. والشاهد فيه كالشاهد في البيت السابق.
[28292]:الكشاف 3/10.
[28293]:كان: سقط من ب.
[28294]:في ب: وبحالة.
[28295]:البحر المحيط 6/309.
[28296]:وفي اللسان (فجج): الفج: الطريق الواسع بين جبلين، وجمعه فجاج.
[28297]:في الأصل: "الله".
[28298]:[نوح: 19، 20].
[28299]:انظر الفخر الرازي 22/165، البحر المحيط 6/309.
[28300]:انظر البحر المحيط 6/309.
[28301]:انظر الفخر الرازي 22/164.
[28302]:في النسختين: لكي يهتدون.
[28303]:انظر الفخر الرازي 22/165.
[28304]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/165.
[28305]:في الأصل: مفهومين.
[28306]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/165.