قوله تعالى : { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا } ، قيل : خوفا من الصاعقة ، طمعا في نفع المطر . وقيل : الخوف للمسافر ، يخاف منه الأذى والمشقة والطمع للمقيم يرجو منه البركة والمنفعة . وقيل : الخوف من المطر في غير مكانه وإبانه ، والطمع إذا كان في مكانه وإبانه ، ومن البلدان ما إذا أمطروا وقحطوا وإذا لم يمطروا أخصبوا . { وينشئ السحاب الثقال } ، بالمطر . يقال : أنشأ الله السحابة فنشأت أي : أبداها فبدت ، والسحاب جمع ، واحدتها سحابة ، قال علي رضي الله عنه : السحاب غربال الماء .
ثم لفت - سبحانه - أنظار عباده إلى أنواع متعددة من الظواهر الكونية الدالة على قدرته ووحدانيته ، وبين أن هذه الظواهر قد تكون نعما ، وقد تكون نقما ، وأنها وغيرها تسبح بحمد الله ، وتخضع لسلطانه فقال - تعالى - :
{ هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً . . . } .
البرق : ما يراه الرائى من نور لامع يظهر من خلال السحاب ، وخوفا وطمعا : حالان من الكاف في يريكم ، أو هما في محل المفعول لأجله .
والمعنى : هو الله - تعالى - وحده الذي يريكم بقدرته البرق ، فيترتب على ذلك أن بعضكم يخاف ما ينجم عنه من صواعق ، أو سيل مدمر ، وبعضكم يطمع في الخير من ورائه ، فقد يعقبه المطر النافع ، والغيث المدرار .
فمن مظاهر حكمة الله - تعالى - في خلقه ، أنه جعل البرق علامة إنذار وتبشير معا ، لأنه بالإِنذار والتبشير تعود النفوس إلى الحق ، وتفئ إلى الرشد .
وجملة { وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - سبحانه - وإنشاء السحاب : تكونيه من العدم .
والسحاب : الغيم المنسحب في الهواء ، وهو اسم جنس واحد سحابة ، فلذلك وصف بالجمع وهو { الثقال } جمع ثقيلة .
أى : وهو - سبحانه - الذي ينشئ السحاب المثقل بالماء ، فيرسله من مكان إلى مكان على حسب حكمته ومشيئته .
قال - تعالى - { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر ، موصول بذلك الوادي الذي كنا فيه . واد تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس ، متداخلة متناسقة في الصورة والظل والإيقاع . وتخيم عليه الرهبة والضراعة والجهد والإشفاق . وتظل النفس فيه في ترقب وحذر ، وفي تأثر وانفعال :
( هو الذي يريكم البرق . خوفا وطمعا . وينشيء السحاب الثقال . ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته . ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ، وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال . له دعوة الحق ، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ، وما هو ببالغه ، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال . ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، وظلالهم ، بالغدو والآصال . قل : من رب السماوات والأرض ? قل : الله . قل : أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ? قل : هل يستوي الأعمى والبصير . أم هل تستوي الظلمات والنور ? أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ? قل : الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ) . .
والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة ، وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان . وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس - سواء عند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها والذين لا يعرفون عن الله شيئا ! والسياق يحشدها هنا ؛ ويضيف إليها الملائكة والظلال والتسبيح والسجود والخوف والطمع ، والدعاء الحق والدعاء الذي لا يستجاب . ويضم إليها هيئة أخرى : هيئة ملهوف يتطلب الماء ، باسطا كفيه ليبلغه ، فاتحا فاه يتلقف منه قطرة . .
هذه كلها لا تتجمع في النص اتفاقا أو جزافا . إنما تتجمع لتلقي كلها ظلالها على المشهد ، وتلفه في جو من الرهبة والترقب ، والخوف والطمع ، والضراعة والارتجاف ، في سياق تصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر ، نفيا للشركاء المدعاة ، وإرهابا من عقبى الشرك بالله
( هو الذي يريكم البرق . خوفا وطمعا ) . .
هو الله الذي يريكم هذه الظاهرة الكونية ، فهي ناشئة من طبيعة الكون التي خلقها هو على هذا النحو الخاص ، وجعل لها خصائصها وظواهرها . ومنها البرق الذي يريكم إياه وفق ناموسه ، فتخافونه لأنه بذاته يهز الأعصاب ، ولأنه قد يتحول إلى صاعقة ، ولأنه قد يكون نذيرا بسيل مدمر كما علمتكم تجاربكم . وتطمعون في الخير من ورائه ، فقد يعقبه المطر المدرار المحيي للموات ، المجري للأنهار .
وهو كذلك الذي ينشيء السحاب - والسحاب اسم جنس واحدته سحابة - الثقال بالماء . فوفق ناموسه في خلقه هذا الكون وتركيبه تتكون السحب ، وتهطل الأمطار . ولو لم يجعل خلفة الكون على هذا النحو ما تكونت سحب ولا هطلت أمطار . ومعرفة كيف تتكون السحب ، وكيفية هطول الأمطار لا تفقد هذه الظاهرة الكونية شيئا من روعتها ، ولا شيئا من دلالتها . فهي تتكون وفق تركيب كوني خاص لم يصنعه أحد إلا الله . ووفق ناموس معين يحكم هذا التركيب لم يشترك في سنه أحد من عبيد الله ! كما أن هذا الكون لم يخلق نفسه ، ولا هو الذي ركب في ذاته ناموسه !
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السّحَابَ الثّقَالَ * وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } .
يقول تعالى ذكره : هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ يعني أن الربّ هو الذي يرى عباده البرق . وقوله : هُوَ كناية اسمه جلّ ثناؤه ، وقد بيّنا معنى البرق فيما مضى وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقوله خَوْفا يقول : خوفا للمسافر من أذاه . وذلك أن البرق الماء في هذا الموضع ، كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم ، مولى ابن عباس ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق ، فقال : البرق : الماء .
وقوله وَطَمَعا يقول : وطمعا للمقيم أن يمطر فينتفع . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عنقتادة ، قوله : هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفا وَطَمَعا يقول : خوفا للمسافر في أسفاره ، يخاف أذاه ومشقته ، وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : خَوْفا وطَمَعا خوفا للمسافر ، وطمعا للمقيم .
وقوله : وَيُنْشِىءُ السّحابَ الثّقالَ : ويثير السحاب الثقال بالمطر ، ويبدئه ، يقال منه : أنشأ الله السحاب : إذا أبدأه ، ونشأ السحاب : إذا بدأ ينشأ نشأً . والسحاب في هذا الموضع وإن كان في لفظ واحد فإنها جمع واحدتها سحابة ، ولذلك قال : «الثقال » ، فنعتها بنعت الجمع ، ولو كان جاء : السحاب الثقيل كان جائزا ، وكان توحيدا للفظ السحاب ، كما قيل : جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشّجَرِ الأخْضَرِ نارا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَيُنْشِىءُ السّحابَ الثّقالَ قال : الذي فيه الماء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَيُنْشِىءُ السّحابَ الثّقالَ قال : الذي فيه الماء .
وقوله : وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ قال أبو جعفر : وقد بيّنا معنى الرعد فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد ، قال كما :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا كثير بن هشام ، قال : حدثنا جعفر ، قال : بلغنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد الشديد ، قال : «اللّهُمّ لا تَقْتُلْنا بِغَضَبكَ ، وَلا تُهْلِكْنا بِعَذَابِكَ ، وَعافِنا قَبْلَ ذلكَ » .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبيه ، عن رجل ، عن أبي هريرة رفع الحديث : أنه كان إذا سمع الرعد قال : «سُبْحانَ مَنْ يُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ » .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا مسعدة بن اليسع الباهلي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن عليّ رضي الله عنه ، كان إذا سمع صوت الرعد ، قال : «سبحان من سبحتَ له » .
قال : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان إذا سمع الرعد ، قال : «سبحان الذي سبحت له » .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا يعلى بن الحارث ، قال : سمعت أبا صخرة يحدّث عن الأسود بن يزيد ، أنه كان إذا سمع الرعد ، قال : «سبحان من سبحت له » ، أو «سبحان الذي يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته » .
قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، وعبد الكريم ، عن طاوس أنه كان إذا سمع الرعد ، قال : «سبحان من سبحت له » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ميسرة ، عن الأوزاعي ، قال : كان ابن أبي زكريا يقول : من قال حين يسمع الرعد : «سبحان الله وبحمده » ، لم تصبه صاعقة .
{ هو الذي يريكم البرق خوفا } من أذاه . { وطمعا } في الغيث وانتصابهما على العلة بتقدير المضاف ، أي إرادة خوف وطمع أو التأويل بالإخافة والإطماع ، أو الحال من { البرق } أو المخاطبين على إضمار ذو ، أو إطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة . وقيل يخاف المطر من يضره ويطمع فيه من ينفعه . { وينشئ السّحاب } الغيم المنسحب في الهواء . { الثّقال } وهو جمع ثقيلة وإنما وصف به السحاب لأنه اسم جنس في معنى الجمع .