قوله تعالى : { أم تريدون أن تسألوا رسولكم } . نزلت في اليهود حين قالوا : يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة فقال تعالى : ( أم تريدون ) يعني أتريدون ؟ فالميم صلة وقيل : بل تريدون أن تسألوا رسولكم محمداً صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { كما سئل موسى من قبل } . سأله قومه : أرنا الله جهرة وقيل : إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا ، كما أن موسى سأله قومه فقالوا : أرنا الله جهرة ، ففيه منعهم عن السؤالات المقترحة بعد ظهور الدلائل والبراهين .
قوله تعالى : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } . يستبدل الكفر بالإيمان .
قوله تعالى : { فقد ضل سواء السبيل } . أخطأ وسط الطريق وقيل : قصد السبيل .
ثم حذر القرآن الكريم المؤمنين من الاستماع إلى وساوس اليهود ، تثبيتاً لقلوبهم ، وتقوية لإيمانهم ، فقال تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } .
والمعنى : لا يصح لكم أيها المؤمنون أن تقترحوا على رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم مقترحات تتنافى مع الإِيمان الحق كأن تسألوه أسئلة لا خير من ورائها لأنكم لو فعلتم ذلك لصرتم كبني إسرائيل الذين طلبوا من نبيهم موسى - عليه السلام - بعد أن جاءهم بالبينات - مطالب تدل على تعنتهم وجهلهم فقال له : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } وقالوا له : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } ولو صرتم مثلهم لكنتم ممن يختار الكفر على الإِيمان ، ولخرجتم عن الصراط المستقيم الذي يدعوكم إليه نبيكم صلى الله عليه وسلم .
والاستفهام في الآية الكريمة للإِنكار ، وفي أسلوبها مبالغة في التحذير من الوقوع فيما وقع فيه اليهود من تعنت مع رسولهم ، إذ جعل محط الإِنكار إرادتهم للسؤال ، وفي النهي عن إرادة الشيء ، نهى عن فعله بأبلغ عبارة .
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىَ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ }
اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية . فقال بعضهم بما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثني يونس بن بكير ، وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قالا : حدثنا ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس : قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجّرْ لنا أنهارا نتبعك ونصدّقك فأنزل الله في ذلك من قولهم : { أمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } الآية . وقال آخرون بما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } وكان موسى يُسأل فقيل له : أرِنا الله جَهْرَةً .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة ، فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة . وقال آخرون بما :
حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الله : { أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة . فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له الصفا ذهبا ، قال : «نَعَمْ ، وَهُوَ لَكُمْ كمائِدَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ كَفَرْتُمْ » . فأبوا ورجعوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، فقال : «نَعَمْ ، وَهُوَ لَكُمْ كالمَائِدَةِ لِبَنِي إسْرَائِيلَ إنْ كَفَرَتُمْ . فأبوا ورجعوا ، فأنزل الله : { أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله ،
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : قال رجل : يا رسول الله لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ لا نَبْغِيها ما أعْطاكُمُ اللّهُ خَيْرٌ مِمّا أعْطَى بَنِي إسْرَائِيلَ فقال النبيّ : كانت بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا فَعَلَ أحَدُهُمُ الخَطِيئَةَ وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً على بابِهِ وَكَفّارَتَها ، فإنْ كَفّرَها كانَتْ لَهُ خِزْيا فِي الدّنْيا ، وإنْ لَمْ يُكَفّرْهَا كانَتْ لَهُ خِزْيا فِي الاَخِرَةِ . وَقَدْ أعْطاكُمُ اللّهُ خَيْرا مِمّا أعْطَى بَنِي إسْرائِيلَ ، قالَ : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما . قال : وقال : «الصّلَوَاتُ الخَمْسُ وَالجُمَعَةُ إلى الجُمُعَةِ كَفّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنّ » . وقال : «مَنْ هَمّ بِحَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً ، فإنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ أمْثَالِهَا ، وَلاَ يَهْلِكُ عَلَى اللّهِ إلا هالِكٌ » . فأنزل الله : أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ .
واختلف أهل العربية في معنى أمْ التي في قوله : أمْ تُرِيدُونَ .
فقال بعض البصريين : هي بمعنى الاستفهام ، وتأويل الكلام : أتريدون أن تسألوا رسولكم ؟ وقال آخرون منهم : هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام ، كأنك تميل بها إلى أوله كقول العرب : إنها لإبل يا قوم أم شاء ، ولقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي .
قال : وليس قوله : أَمْ تُرِيدُونَ على الشك ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم . واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل :
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رأيْتَ بِوَاسِطٍ غَلَسَ الظّلامِ مِنَ الرّبابِ خيَالاَ
وقال بعض نحويي الكوفيين : إن شئت جعلت قوله : أمْ تُرِيدُونَ استفهاما على كلام قد سبقه ، كما قال جل ثناؤه : الم تَنْزِيلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبّ العالَمِينَ أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ فجاءت «أم » وليس قبلها استفهام . فكان ذلك عنده دليلاً على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه .
وقال قائل هذه المقالة : «أم » في المعنى تكون ردّا على الاستفهام على جهتين ، إحداهما : أن تعرّف معنى «أيّ » ، والأخرى أن يستفهم بها ، ويكون على جهة النسق ، والذي ينوي به الابتداء إلا أنه ابتداء متصل بكلام ، فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت لم يكن إلا بالألف أو ب«هَلْ » . قال : وإن شئت قلت في قوله : أمْ تُرِيدُونَ قبله استفهام ، فردّ عليه وهو في قوله : ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
والصواب من القول في ذلك عندي على ما جاءت به الاَثار التي ذكرناها عن أهل التأويل أنه استفهام مبتدأ بمعنى : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم ؟ وإنما جاز أن يستفهم القوم ب«أَمْ » وإن كانت «أم » أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدّم ما تقدّمها من الكلام لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام ، ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام . ونظيره قوله جل ثناؤه : الم تَنْزِيلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبّ العالَمِين أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ . وقد تكون «أم » بمعنى «بل » إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه «أيّ » ، فيقولون : هل لك قِبَلَنا حق ، أم أنت رجل معروف بالظلم ؟ وقال الشاعر :
فَوَاللّهِ ما أدْرِي أسَلْمَى تَقوّلَتْ أمِ القَوْم أمْ كُلّ إليّ حَبِيبُ
وقد كان بعضهم يقول منكرا قول من زعم أن «أم » في قوله : أمْ تُرِيدُونَ استفهام مستقبل منقطع من الكلام يميل بها إلى أوله أن الأول خبر والثاني استفهام ، والاستفهام لا يكون في الخبر ، والخبر لا يكون في الاستفهام ولكن أدركه الشك بزعمه بعد مضيّ الخبر ، فاستفهم .
فإذا كان معنى «أم » ما وصفنا ، فتأويل الكلام : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم ، فتكفروا إن منعتموه في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه ، أو أن تهلكوا ، إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه فأعطاكموه ثم كفرتم من بعد ذلك ، كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم ، فلما أعطيت كفرت ، فعوجلت بالعقوبات لكفرها بعد إعطاء الله إياها سؤلها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بالإيمَانِ .
يعني جل ثناؤه بقوله : وَمَنْ يَتَبَدّلِ ومن يستبدل الكفر ويعني بالكفر : الجحود بالله وبآياته بالإيمان ، يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به . وقد قيل عنى بالكفر في هذا الموضع الشدة وبالإيمان الرخاء . ولا أعرف الشدة في معاني الكفر ، ولا الرخاء في معنى الإيمان ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله الكفر بمعنى الشدّة في هذا الموضع وبتأويله الإيمان في معنى الرخاء ما أعدّ الله للكفار في الاَخرة من الشدائد ، وما أعدّ الله لأهل الإيمان فيها من النعيم ، فيكون ذلك وجها وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن أبي العالية : { وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بِالإيمَانِ }يقول : يتبدّل الشدّة بالرخاء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية بمثله .
وفي قوله : { وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بالإيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ } دليل واضح على ما قلنا من أن هذه الاَيات من قوله : { يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنا } خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم مما سرّ به اليهود وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ، فكرهه الله لهم . فعاتبهم على ذلك ، وأعلمهم أن اليهود أهل غشّ لهم وحسد وبغي ، وأنهم يتمنون لهم المكاره ويبغونهم الغوائل ، ونهاهم أن ينتصحوهم ، وأخبرهم أن من ارتدّ منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا فقد أخطأ قصد السبيل .
القول في تأويل قوله تعالى : فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ .
أما قوله : فَقَدْ ضَلّ فإنه يعني به ذهب وحاد . وأصل الضلال عن الشيء : الذهاب عند والحَيْد . ثم يستعمل في الشيء الهالك والشيء الذي لا يؤبه له ، كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة : ضلّ بن ضلّ ، وقلّ بن قلّ كقول الأخطل في الشيء الهالك :
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أكْدَرَ مُزْبِدٍ قَذَفَ الأتيّ بِهِ فَضَلّ ضَلالاَ
والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله : فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه .
وأما تأويل قوله : { سَوَاءَ السّبِيلِ } فإنه يعني بالسواء : القصد والمنهج ، وأصل السواء : الوسط ، ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال : «ما زلت أكتب حتى انقطع سَوَائي » ، يعني وسطي . وقال حسان بن ثابت :
يا وَيْحَ أنْصَار النّبِيّ وَنَسْلِه ِبَعدَ المُغَيّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ
يعني بالسواء الوسط . والعرب تقول : هو في سواء السبيل ، يعني في مستوى السبيل . وسواءُ الأرض مستواها عندهم ، وأما السبيل فإنها الطريق المسبول ، صُرف من مسبول إلى سبيل .
فتأويل الكلام إذا : ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر فيرتدّ عن دينه ، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول . وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق ، والمعني به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه ، وسبيلاً يركبونها إلى محبته والفوز بجناته . فجعل جل ثناؤه الطريق الذي إذا ركب محجته السائر فيه ولزم وسطه المجتاز فيه ، نجا وبلغ حاجته وأدرك طلبته لدينه الذي دعا إليه عباده مثلاً لإدراكهم بلزومه واتباعه إدراكهم طلباتهم في آخرتهم ، كالذي يدرك اللازم محجة السبيل بلزومه إياها طلبته من النجاة منها ، والوصول إلى الموضع الذي أمّه وقصده . وجعل مثل الحائد عن دينه والحائد عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته في حياته ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده وذهابه عمّا أمل من ثواب عمله وبعده به من ربه ، مثل الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل ، الذي لا يزداد وُغولاً في الوجه الذي سلكه إلا ازداد من موضع حاجته بُعْدا ، وعن المكان الذي أَمّهُ وأراده نَأْيا . وهذه السبيل التي أخبر الله عنها أن من يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواءها ، هي الصراط المستقيم الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله : اهْدِنا الصّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الّذِينَ أنعَمْتَ عَلَيْهِمْ .
( أم ) حرف عطف مختص بالاستفهام وما في معناه وهو التسوية فإذا عطفت أحد مفرديْنِ مستفهماً عن تعيين أحدهما استفهاماً حقيقياً أو مسوَّى بينهما في احتمال الحصول فهي بمعنى ( أو ) العاطفة ويسميها النحاة متصلة ، وإذا وقعت عاطفة جملةً دلت على انتقال من الكلام السابق إلى استفهام فتكون بمعنى بل الانتقالية ويسميها النحاة منقطعة والاستفهام ملازم لما بعدها في الحالين . وهي هنا منقطعة لا محالة لأن الاستفهامين اللذين قبلها في معنى الخبر لأنهما للتقرير كما تقدم إلا أن وقوعهما في صورة الاستفهام ولو للتقرير يحسن موقع ( أم ) بعدهما كما هو الغالب والاستفهام الذي بعدهما هنا إنكار وتحذير ، والمناسبة في هذا الانتقال تامة فإن التقريرالذي قبلها مراد منه التحذير من الغلط وأن يكونوا كمن لا يعلم والاستفهام الذي بعدها مراد منه التحذير كذلك والمحذر منه في الجميع مشترك في كونه من أحوال اليهود المذمومة ولا يصح كون ( أم ) هنا متصلة لأن الاستفهامين اللذين قبلها ليسا على حقيقتهما لا محالة كما تقدم .
وقد جوز القزويني في « الكشف على الكشاف » كون ( أم ) هنا متصلة بوجه مرجوح وتبعه البيضاوي وتكلفا لذلك مما لا يساعد استعمال الكلام العربي ، وأفرط عبد الحكيم في « حاشية البيضاوي » فزعم أن حملها على المتصلة أرجح لأنه الأصل لا سيما مع اتحاد فاعل الفعلين المتعاطفين بأم ولدلالته على أنهم إذا سألوا سؤال قوم موسى فقد علموا أن الله على كل شيء قدير وإنما قصدوا التعنت وكان الجميع في غفلة عن عدم صلوحية الاستفهامين السابقين للحمل على حقيقة الاستفهام .
وقوله : { تريدون } خطاب للمسلمين لا محالة بقرينة قوله : { رسولكم } وليس كونه كذلك بمرجح كون الخطابين اللذين قبله متوجهين إلى المسلمين لأن انتقال الكلام بعد ( أم ) المنقطعة يسمح بانتقال الخطاب .
وقوله : { تريدون } يؤذن بأن السؤال لم يقع ولكنه ربما جاش في نفوس بعضهم أو ربما أثارته في نفوسهم شبه اليهود في إنكارهم النسخ وإلقائهم شبهة البداء ونحو ذلك مما قد يبعث بعض المسلمين على سؤال النبيء صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { كما سئل موسى } تشبيهٌ وجهُه أن في أسئلة بني إسرائيل موسى كثيراً من الأسئلة التي تفضي بهم إلى الكفر كقولهم : { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] أو من العجرفة كقولهم : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] فيكون التحذير من تسلسل الأسئلة المفضي إلى مثل ذلك . ويجوز كونه راجعاً إلى أسئلة بني إسرائيل عما لا يعنيهم وعما يجر لهم المشقة كقولهم { ما لونها } [ البقرة : 69 ] و { ماهي } [ البقرة : 7 ] .
قال الفخر : إن المسلمين كانوا يسألون النبيء صلى الله عليه وسلم عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى اهـ .
وقد ذكر غيره أسباباً أخرى للنزول ، منها : أن المسلمين سألوا النبيء صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر لما مروا بذات الأنواط التي كانت للمشركين أن يجعل لهم مثلها ونحو هذا مما هو مبني على أخبار ضعيفة ، وكل ذلك تكلف لما لا حاجة إليه فإن الآية مسوقة مساق الإنكار التحذيري بدليل قوله : { تريدون } قصداً للوصاية بالثقة بالله ورسوله والوصاية والتحذير لا يقتضيان وقوع الفعل بل يقتضيان عدمه . والمقصود التحذير من تطرق الشك في صلاحية الأحكام المنسوخة قبل نسخها لا في صلاحية الأحكام الناسخة عند وقوعها .
وقوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } تذييل للتحذير الماضي للدلالة على أن المحذر منه كفر أو يفضي إلى الكفر لأنه ينافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى ، ويحتمل أن المراد بالكفر أحوال أهل الكفر أي لا تتبدلوا بآدابكم تقلد عوائد أهل الكفر في سؤالهم كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث « الصحيحين » : " فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " وإطلاق الكفر على أحوال أهله وإن لم تكن كفراً شائع في ألفاظ الشريعة وألفاظ السلف كما قالت جميلة بنت عبد الله بن أُبَيَ زوجةُ ثابتِ بن قيس : « إني أكره الكفر » تريد الزنا ، فإذن ذكر جملة بعد جملة يؤذن بمناسبة بين الجملتين فإذا لم يكن مدلول الجملتين واضح التناسب علم المخاطب أن هنالك مناسبة يرمز إليها البليغ فهنا تعلم أن الارتداد عن الإيمان إلى الكفر معنى كلي عام يندرج تحته سؤالهم الرسول كما سأل بنو إسرائيل موسى فتكون تلك القضية كفراً وهو المقصود من التذييل المعرف في باب الإطناب بأنه تعقيب الجملة بجملة مشتملة على معناها تتنزل منزلة الحجة على مضمون الجملة وبذلك يحصل تأكيد معنى الجملة الأولى وزيادة فالتذييل ضرب من ضروب الإطناب من حيث يشتمل على تقرير معنى الجملة الأولى ويزيد عليه بفائدة جديدة لها تعلق بفائدة الجملة الأولى . وأبدعه ما أخرج مخرج الأمثال لما فيه من عُموم الحكم ووجيز اللفظ مثل هاته الآية ، وقول النابغة :
ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تُلِمُّه *** على شعَث أيُّ الرجال المهذب
والمؤكد بجملة : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } هو مفهوم جملة { أم تريدون أن تسألوا رسولكم } مفهوم الجملة التي قبلها لا منطوقها فهي كالتذييل الذي في بيت النابغة . والقول في تعدية فعل { يتبدل } مضى عند قوله تعالى : { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } [ البقرة : 61 ] .
وقد جعل قوله : { فقد ضل } جواباً لمن الشرطية لأن المراد من الضلال أعظمه وهو الحاصل عقب تبدل الكفر بالإيمان ولا شبهة في كون الجواب مترتباً على الشرط ولا يريبك في ذلك وقوع جواب الشرط فعلاً ماضياً مع أن الشرط إنما هو تعليق على المستقبل ولا اقتران الماضي بقد الدالة على تحقق المضي لأن هذا استعمال عربي جيد يأتون بالجزاء ماضياً لقصد الدلالة على شدة ترتب الجزاء على الشرط وتحقق وقوعه معه حتى إنه عند ما يحصل مضمون الشرط يكون الجزاء قد حصل فكأنه حاصل من قبل الشرط نحو : { ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } [ طه : 81 ] وعلى مثل هذا يحمل كل جزاء جاء ماضياً فإن القرينة عليه أن مضمون الجواب لا يحصل إلا بعد حصول الشرط وهم يجعلون قد علامة على هذا القصد ولهذا قلما خلا جواب ماض لشرط مضارع إلا والجواب مقترن بقد حتى قيل : إن غير ذلك ضرورة ولم يقع في القرآن كما نص عليه الرضي بخلافه مع قد فكثير في القرآن .
وقد يجعلون الجزاء ماضياً مريدين أن حصول مضمون الشرط كاشف عن كون مضمون الجزاء قد حصل أو قد تذكره الناس نحو { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } [ يوسف : 77 ] وعليه فيكون تحقيق الجزاء في مثله هو ما يتضمنه الجواب من معنى الانكشاف أو السبق أو غيرهما بحسب المقامات قبل أن يقدر فلا تعجب إذ قد سرق أخ له{[155]} ويمكن تخريج هذه الآية على ذلك بأن يقدر ومن يتبدل الكفر بالإيمان فالسبب فيه أنه قد كان ضل سواء السبيل حتى وقع في الارتداد كما تقول من وقع في المهواة فقد خبط خبط عشواء إن أريد بالماضي أنه حصل وأريد بالضلال ما حف بالمرتد من الشبهات والخذلان الذي أوصله إلى الارتداد وهو بعيد من غرض الآية .
والسواء الوسط من كل شيء قال بلعاء بن قيس :
غَشَّيْتُه وهو في جَأَوَاءَ باسلة*** عَضْبَاً أصاب سواءَ الرأس فانفلقا
ووسط الطريق هو الطريق الجادة الواضحة لأنه يكون بين بنيات الطريق التي لا تنتهي إلى الغاية .