معاني القرآن للفراء - الفراء  
{أَمۡ تُرِيدُونَ أَن تَسۡـَٔلُواْ رَسُولَكُمۡ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبۡلُۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (108)

وقوله : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ . . . }

{ أَمْ } ( في المعنى ) تكون ردّا على الاستفهام على جهتين ؛ إحداهما : أن تفرّق معنى " أي " والأخرى أن يُسْتفهم بها . فتكون على جهة النسق ، والذي يُنوى بها الابتداء إلاّ أنه ابتداء متّصلٌ بكلام . فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلامٌ ، ثم استفهمت لم يكن إلاّ بالألِفِ أو بهَلْ ؛ ومن ذلك قول الله : { ألم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } ، فجاءت " أَمْ " وليس قبلها استفهام ، فهذا دليل على أنها استفهامٌ مبتدأ على كلامٍ قد سبقه . وأما قوله : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ } فإن شئت جعلته على مثل هذا ، وإن شئت قلت : قبله استفهام فرُدّ عليه ؛ وهو قول الله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ على كُلِّ شيء قَدِيرَ } . وكذلك قوله : { مالَنا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ . اتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ } فإن شئت جعلته استفهاما مبتدأ قد سبقه كلامٌ ، وإن شئت جعلته مردودا على قوله : { ما لَنا لاَ نَرَى رِجَالاً } وقد قرأ بعض القُرّاء : { َتَّخَذْناهُمْ سخْرِيّاً } يستفهم في { أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيّاً } بقطع الألف لِينسِّق عليه { َمْ } لأن أكثَر ما تجيءُ مع الألف ؛ وكلٌّ صواب . ومثله : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِي } ثم قال : { أَمْ أَنا خَيْرٌ مِنْ هَذَا } والتفسير فيهما واحد . وربّما جعلتِ العربُ " أَمْ " إذا سبقها استفهام لا تصلح أي فيه على جهة بل ؛ فيقولون : هل لك قِبلنا حق أم أنت رجلٌ معروفٌ بالظّلم .

يريدون : بل أنت رجلٌ معروف بالظُّلم ؛ وقال الشاعر :

فَوَاللّهِ ما أدْرِى أَسَلْمَى تَغَوّلَتْ *** أَمِ النَّوْمُ أَمْ كُلٌّ إِلَىّ حَبِيبٌ

معناه [ بل كلّ إلىّ حبيب ] .

وكذلك تفعل العرب في " أَوْ " فيجعلونها نسَقاً مُفرِّقة لمعنى ما صلحت فيه " أحَدٌ " ، و " إِحْدَى " كقولك : اضرب أحدهما زيدا أو عمرا ، فإذا وقعت في كلام لا يراد به أحدٌ وإن صلحت جعلوها على جهة بل ؛ كقولك في الكلام : اذهب إلى فلانٍ أو دَعْ ذلك فلا تبرح اليوم . فقد دَلّك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأوّلِ وجعل " أو " في معنى " بل " ؛ ومنه قول الله : { وَأَرْسَلْناهُ إِلَى مائةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } وأنشدني بعض العرب :

بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشّمسِ في رَوْنَقِ الضُّحى *** وصُورَتِها أَوْ أَنْتِ في الْعَيْنِ أَمْلَحُ

يريد : بل أنتِ .

وقوله : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ . . . }

و { سواء } في هذا الموضع قصد ، وقد تكون " سواء " في مذهب غير ؛ كقولك للرجل : أتيت سواءك .