الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَمۡ تُرِيدُونَ أَن تَسۡـَٔلُواْ رَسُولَكُمۡ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبۡلُۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (108)

قوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ } . . قد تَقَدَّم أنَّ " أَمْ " هذه يجوزُ أن تكونَ متصلةً معادِلَةً لقولِه : " ألم تَعْلَمْ " ، وأَنْ تكونَ منقطعة وهو الظاهرُ ، فَتُقَدَّر ببل والهمزِ ، ويكون إضرابَ انتقالٍ من قصةٍ إلى قصة قال أبو البقاء : أَمْ هنا منقطعةٌ ، إذ ليسَ في الكلام همزةٌ تقعُ موقعَها ومع أم : أيُّهما ، والهمزةُ من قولِه : " ألم تعلمْ " ليسَتْ مِنْ أم في شيء والمعنى : بل أتريدون " فَخَرَجَ مِن كلام إلى كلام . وأصلُ تُريدون : تُرْودُون ، لأنه مِنْ رَادَ يَرُودُ ، وقد تقدَّم ، فَنُقِلَتْ حركةُ الواوِ على الراءِ فَسَكَنَت الواوُ بعد كسرةٍ فقُبِلَتْ ياءً . وقيل " أم " للاستفهامِ ، وهذه الجملةُ منقطعةٌ عما قبلها وقيل : هي بمعنى بل وحدَها ، وهذان قولان ضعيفان .

قوله : { أَن تَسْأَلُواْ } ناصبٌ ومنصوبٌ في محلِّ نصبٍ مفعولاً به بقوله " تُريدون " ، أي : أتريدون سؤالَ رسولِكم .

قولُه : " كما سُئِلَ " متعلِّقٌ بتَسْأَلوا ، والكافُ في محلِّ نصبٍ ، وفيها التقديران المشهوران : فتقديرُ سيبويه أنَّها حالٌ من ضمير المصدرِ المحذوف أي : أَنْ تَسْأَلوه أي : السؤالَ حالَ كونِه مُشَبَّهاً بسؤالِ قومِ موسى له ، وتقديرُ غيرِه - وهم جمهور النحويين - أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا . و " ما " مصدرية ، أي : كسؤال موسى ، وأجاز الحوفي كونها بمعنى الذي فلا بدَّ من تقدير عائد ، أي كالسؤال الذي سُئِله موسى . و " موسى " مفعول لم يُسمَّ فاعله ، حُذِف الفاعل للعلم به ، أي كما سأل قوم موسى .

والمشهور : " سُئِل " بضم السين وكسر الهمزة ، وقرأ الحسن : " سِيل " بكسر السين وياء بعدها ، مِنْ : سالَ يسال نحو خِفْتُ أخاف ، وهل هذه الألفُ في " سال " أصلُها الهمزُ أولا ؟ تقدَّم خلافٌ في ذلك وسيأتي تحقيقُه في " سَأَلَ " ، وقُرىء بتسهيلِ الهمزةِ بينَ بينَ .

و " من قبلُ " متعلق بسُئل ، و " قبلُ " مبنيةٌ على الضَمِّ لأن المضافَ إليه معرفةٌ أي : من قبلِ سؤالِكم . وهذا توكيدٌ ، وإلاَّ فمعلومٌ أنَّ سؤال موسى كان متقدَّماً على سؤالهم .

قوله : { بِالإِيمَانِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنها باء العِوَضيَّة ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك . والثاني : أنها للسببية ، قال أبو البقاء : " يجوز أن يكونَ مفعولاً بيتبدَّل ، وتكون الباءُ للسبب كقولك : اشتريْتُ الثوبَ بدرهمٍ " وفي مثالِه هذا نظرٌ .

{ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ } قرئ بإدغام الدال في الضاد وإظهارها ، و " سواءَ " قال أبو البقاء : " سواء السبيلِ ظرفٌ بمعنى وَسَطِ السبيلِ وأعدله " وهذا صحيحٌ فإنَّ " سَواء " جاء بمعنى وَسَط ، قال تعالى : { فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ } [ الصافات : 55 ] وقال عيسى بن عمر : " ما زلت أكتب حتى انقطع سَوائي " وقال حسان .

يا ويحَ أصحابِ النبيِّ ورَهْطِه *** بعدَ المُغَيَّبِ في سَواءِ المُلْحَدِ

ومن مجيئه بمعنى العَدْلِ قولُ زهير :

أَرُونا خُطَّةً لا عيبَ فيها *** يُسَوِّي بيننا فياه السَّواءُ

والسبيلُ يُذَكَّر ويؤنَّث :

{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } [ يوسف : 108 ] . والجملةُ من قولِه : " فَقَدْ ضَلَّ " في محلِّ جزمٍ لأنَّها جزاءُ الشرطِ ، والفاءُ واجبةٌ هنا لعَدَمِ صلاحيَتِه شَرْطَاً .