محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَمۡ تُرِيدُونَ أَن تَسۡـَٔلُواْ رَسُولَكُمۡ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبۡلُۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (108)

{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل 108 } .

{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } ( أم ) هنا ، إما متصلة معادلة للهمزة في { ألم تعلم } أي ألم تعلموا أنه مالك الأمور ، قادر على الأشياء كلها ، يأمر وينهى كما أراد . . . أم تعلموا وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام ؟ وإما منقطعة بمعنى بل للإضراب والانتقال عن حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايل المساهلة منهم في ذلك ، وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة ، إلى التحذير من ذلك . ومعنى ( الهمزة ) إنكار وقوع الإرادة منهم ، واستبعاده . لما أن قضية الإيمان وازعة عنها . وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلّقها للمبالغة في إنكاره واستبعاده ، ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته . فضلا عن صدور نفسه . وقوله : { ومن يتبدّل الكفر } أي : يختره ، ويأخذه لنفسه { بالإيمان } . بمقابلته بدلا منه { فقد ضلّ سواء السبيل } أي عدل عن الصراط المستقيم . جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله : { أم تريدون } إلخ ، معطوفة عليه . ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد وتبديل الكفر بالإيمان . فظهر وجه ذكر قوله : { أم تريدون } إلخ بعد قوله تعالى : { ما ننسخ } . فإن المقصود من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها .

قال الراغب : فإن قيل ما فائدة قوله : { ومن يتبدّل الكفر } إلخ ومعلوم أنه بدون الكفر يضل الإنسان سواء السبيل فكيف بالكفر ؟ قيل معنى ذلك من يتبدل الكفر بالإيمان يعلم أنه قد ضل ، قبلُ ، سواء السبيل ، وفي ذلك تنبيه أن ضلاله سواء السبيل قاده إلى الكفر بعد الإيمان . ومعناه لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى فتفضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان . فمبدأ ذلك ، الضلال عن سواء السبيل . ووجه آخر وهو أنه سمى معاندة الأنبياء عليهم السلام ، بعد حصول ما تسكن النفس إليه ، كفرا . إذ هي مؤدية إليه . كتسمية العصير خمرا . فقال : { ومن يتبدّل } أي يطلب تبديل الكفر ، أي المعاندة التي هي مبدأ الكفر ، بالإيمان أي بما حصل له من الدلالة المقتضية لسكون النفس ، فقد ضل سواء السبيل . ووجه ثالث وهو أن ذلك نهاية التبكيت لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل . وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه . ووجه رابع وهو أن { سواء السبيل } إشارة إلى الفطرة التي فطر الناس عليها . والإيمان إشارة إلى المكتسب من جهة الشرائع فقال : { ومن يتبدّل الكفر بالإيمان } أي بالإيمان المكتسب فقد أبطله ، وضيّع الفطرة التي فطر الناس عليها فلا يرجى له نزوع عما هو عليه بعد ذلك .

هذا . وما قررناه في الآية من أن الخطاب للمسلمين هو ما يترجح ويكون كقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } {[688]} . ويرشحه قوله : { ومن يتبدّل الكفر بالإيمان } فإن موقع خطابه إنما يتضح مع المؤمنين . ورجّح الرازيّ كون الخطاب مع اليهود قال : لأن هذه السورة من أول قوله : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي } حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأنه لم يجر ذكر غيرهم في السياق ، وقد قص تعالى عنهم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتابا } الآية ، وحينئذ فمعنى تبدل الكفر بالإيمان ، وهم بمعزل من الإيمان ، وإعراضهم عنه ، مع تمكنهم منه ، وإيثارهم للكفر عليه . كما أن إضافة الرسول إليهم باعتبار أنهم من أمة الدعوة .


[688]:[5/ المائدة/ 101] ونصها: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبد لكم عفا اللّه عنها واللّه غفور حليم 101}.