البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَمۡ تُرِيدُونَ أَن تَسۡـَٔلُواْ رَسُولَكُمۡ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبۡلُۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (108)

{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } : اختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقيل عن ابن عباس : نزلت في عبد الله بن أمية ورهط من قريش ، قالوا : يا محمد اجعل الصفا ذهباً ، ووسع لنا أرض مكة ، وفجر الأنهار خلالها تفجيراً ، ونؤمن لك .

وقيل : تمنى اليهود وغيرهم من المشركين ، فمن قائل : إئتنا بكتاب من السماء جملة ، كما أتى موسى بالتوراة .

ومن قائل : ائتني بكتاب من السماء فيه : من رب العالمين إلى عبد الله بن أمية ، إني قد أرسلت محمداً إلى الناس .

ومن قائل : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً .

وقيل : إن رافع بن خزيمة ، ووهب بن زيد قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب من السماء ، وفجر لنا أنهاراً ، نتبعك .

وقيل : إن جماعة من الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل في تعجيل العقوبة في الدنيا ، فقال : « كانت بنو إسرائيل إذا أصابتهم خطيئة وجدوها مكتوبة على باب الخاطىء ، فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة » وقيل : اليهود وكفار قريش سألوا ردّ الصفا ذهباً ، وقيل لهم : خذوه كالمائدة لبني إسرائيل ، فأبوا ونكصوا .

وقيل : سأل قوم أن يجعل لهم ذات أنواط ، كما كانت للمشركين ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها الثمرة وغيرها من المأكولات وأسلحتهم .

كما سأل بنو إسرائيل موسى فقالوا : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة .

ويحتمل أن تكون هذه كلها أسباباً في نزول هذه الآية ، وقد طولنا بذكر هذه الأسباب ، وذلك بخلاف مقصدنا في هذا الكتاب .

وأم : هنا منقطعة ، وتتقدر المنقطعة ببل والهمزة ، فالمعنى : بل أتريدون ، فبل تفيد الإضراب عما قبله ، ومعنى الإضراب هنا : هو الانتقال من جملة إلى جملة ، لا على سبيل إبطال الأولى .

وقد تقدّم قول من جعل أم هنا معادلة للاستفهام الأول .

وقد بينا ضعف ذلك .

وقالت فرقة : أم استفهام مقطوع من الأول ، كأنه قال : أتريدون .

وهذان القولان ضعيفان .

والذي تقرر أن أم تكون متصلة ومنفصلة .

فالمتصلة : شرطها أن يتقدّمها لفظ همزة الاستفهام ، وأن يكون بعدها مفرد ، أو في تقدير المفرد .

والمنفصلة : ما انخرم الشرطان فيها أو أحدهما ، ويتقدر إذ ذاك ببل والهمزة معاً ، وأما مجيئها مرادفة للهمزة فقط ، أو مرادفة لبل فقط ، أو زائدة ، فأقوال : ضعيفة .

وعلى الخلاف في المخاطبين ، يجيء الكلام في قوله : { رسولكم } .

فإن كان الخطاب للمؤمنين ، وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم ، فيكون رسولكم جاء على ما في نفس الأمر ، وعلى ما أقروا به من رسالته .

وإن كان الخطاب للكفار ، كانت إضافة الرسول إليهم على حسب الأمر في نفسه ، لا على إقرارهم به .

ورجح كون الخطاب للمؤمنين بقوله : { وم يتبدّل الكفر بالإيمان } ، وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمن ، وبأنه معطوف على قوله : { لا تقولوا راعنا } ، أي هل تفعلون ما أمرتم ، أم تريدون ؟ ورجح أنهم اليهود ، لأنه سبق الكلام في الحكايات عنهم ما قالوا ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله ما يكون كفراً .

كما سئل : الكاف في موضع نصب ، فعلى رأي سيبويه : على الحال ، وعلى المشهور من مذاهب المعربين : نعت لمصدر محذوف ، فيقدر على قولهم : سؤالاً كما سئل ، ويقدر على رأي سيبويه : أن تسألوه ، أي السؤال كما سئل ، وما مصدرية التقدير كسؤال .

وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، التقدير : الذي سئله موسى .

وقرأ الجمهور : وسيل .

وقرأ الحسن وأبو السمال : بكسر السين وياء .

وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري : بإشمام السين وياء .

وقرأ بعض القراء : بتسهيل الهمزة بين بين وضم السين .

وهذه القراءات مبنية على اللغتين في سأل ، وهو أن تكون الهمزة مقرة مفتوحة ، فتقول سأل .

فعلى هذه اللغة تكون قراءة الجمهور ، وقراءة من سهل الهمز بين بين .

واللغة الثانية أن تكون عين الكلمة واواً ، وتكون على فعل بكسر العين فتقول : سلت أسال ، كخفت أخاف ، أصله : سولت .

وعلى هذه اللغة تكون قراءة الحسن ، وقراءة من أشم .

وتخريج هاتين القراءتين على هذه اللغة أولى من التخريج على أن أصل الألف الهمز ، فأبدلت الهمزة ألفاً ، فصار مثل : قال وباع ، فقيل فيه : سيل بالكسر المحض ، أو الإشمام ، لأن هذا الإبدال شاذ ولا ينقاس .

وتلك لغة ثانية ، فكان الحمل على ما كان لغة أولى من الحمل على الشاذ غير المطرد .

وحذف الفاعل هنا للعلم به ، التقدير : كما سأل قوم موسى موسى من قبل .

{ موسى من قبل } : يتعلق هذا الجار بقوله : سئل ، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظاً ، وذلك أن المضاف إليه معرفة محذوف .

فلذلك بنيت قبل على الضم ، والتقدير : من قبل سؤالكم ، وهذا توكيد ، لأنه قد علم أن سؤال بني إسرائيل موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، متقدّم على سؤال هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسؤال قوم موسى عليه السلام هو قولهم : { أرنا الله جهرة } { اجعل ن إلهاً } فأراد تعالى أن يوبخهم على تعلق إرادتهم بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يقترحوا عليه ، إذ هم يكفيهم ما أنزل إليهم .

وشبه سؤالهم بسؤال ما اقترحه آباء اليهود من الأشياء التي مصيرها إلى الوبال .

وظاهر الآية يدل على أن السؤال لم يقع منهم .

ألا ترى أنه قال : { أم تريدون أن تسألوا } ؟ فوبخهم على تعلق إرادتهم بالسؤال ، إذ لو كان السؤال قد وقع ، لكان التوبيخ عليه ، لا على إرادته ، وكان يكون اللفظ : أتسألون رسولكم ؟ أو ما أشبه ذلك مما يؤدّي معنى وقوع السؤال ، لكن تظافرت نقولهم في سبب نزول هذه الآية ، وإن اختلفوا في التعيين على أن السؤال قد وقع .

{ ومن يتبدّل الكفر بالإيمان } ؟ تقدّم الكلام في التبديل ، أي : من يأخذ الكفر بدل الإيمان ؟ وهذه كناية عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر ، كما جاء في قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } وفسر الزمخشري هذا بأن قال : ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها .

وقال أبو العالية : الكفر هنا : الشدة ، والإيمان : الرخاء .

وهذا فيه ضعف ، إلا أن يريد أنهما مستعاران في الشدة على نفسه والرخاء لها عن العذاب والنعيم .

وأما المعروف من شدة أمور الدنيا ورخائها ، فلا تفسر الآية بذلك ، والظاهر حمل الكفر والإيمان على حقيقتهما الشرعية ، لأن من سأل الرسول ما سأل مع ظهور المعجزات ووضوح الدلائل على صدقه ، كان سؤاله تعنتاً وإنكاراً ، وذلك كفر .

.

{ فقد ظل سواء السبيل } : هذا جواب الشرط ، وقد تقدم الكلام على الضلال في قوله : { ولا الضالين } وعلى سواء في قوله : { سواء عليهم أأنذرتهم } وأن سواء يكون بمعنى مستو .

ولذلك يتحمل الضمير في قولهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، ويوصف به : { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } ، ويفسر بمعنى العدل والنصفة ، لأن ذلك مستو ، وقال زهير :

أرونا خطة لا عيب فيها***

يسوى بيننا فيها السواء

ويفسر بمعنى الوسط .

قال تعالى : { فرآه في سواء الجحيم } أي في وسطها .

وقال عيسى بن عمر : كتبت حتى انقطع سواي ، وقال حسان :

يا ويح أنصار النبي ورهطه***

بعد المغيب في سواء الملحد

وبذلك فسر السواء في الآية أبو عبيدة ، وفسره الفراء بالقصد .

ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى ، كنى عنها بالسبيل ، وجعل من حاد عنها : كالضال عن الطريق ، وكنى عن سؤالهم نبيهم ما ليس لهم أن يسألوه بتبدل الكفر بالإيمان ، وأخرج ذلك في صورة شرطية ، وصورة الشرط لم تقع بعد تنفيراً عن ذلك ، وتبعيداً منه .

فوبخهم أولاً على تعلق إرادتهم بسؤال ما ليس لهم سؤاله ، وخاطبهم بذلك ، ثم أدرجهم في عموم الجملة الشرطية .

وإن مثل هذا ينبغي أن لا يقع ، لأنه ضلال عن المنهج القويم ، فصار صدر الآية إنكاراً وتوبيخاً ، وعجزها تكفيراً وضلالاً .

وما أدى إلى هذا فينبغي أن لا يتعلق به غرض ولا طلب ولا إرادة .

وإدغام الدال في الضاد من الإدغام الجائز .

وقد قرئ : { فقد ضل } ، بالإدغام وبالإظهار في السبعة .

/خ113