{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } : اختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقيل عن ابن عباس : نزلت في عبد الله بن أمية ورهط من قريش ، قالوا : يا محمد اجعل الصفا ذهباً ، ووسع لنا أرض مكة ، وفجر الأنهار خلالها تفجيراً ، ونؤمن لك .
وقيل : تمنى اليهود وغيرهم من المشركين ، فمن قائل : إئتنا بكتاب من السماء جملة ، كما أتى موسى بالتوراة .
ومن قائل : ائتني بكتاب من السماء فيه : من رب العالمين إلى عبد الله بن أمية ، إني قد أرسلت محمداً إلى الناس .
ومن قائل : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً .
وقيل : إن رافع بن خزيمة ، ووهب بن زيد قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب من السماء ، وفجر لنا أنهاراً ، نتبعك .
وقيل : إن جماعة من الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل في تعجيل العقوبة في الدنيا ، فقال : « كانت بنو إسرائيل إذا أصابتهم خطيئة وجدوها مكتوبة على باب الخاطىء ، فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة » وقيل : اليهود وكفار قريش سألوا ردّ الصفا ذهباً ، وقيل لهم : خذوه كالمائدة لبني إسرائيل ، فأبوا ونكصوا .
وقيل : سأل قوم أن يجعل لهم ذات أنواط ، كما كانت للمشركين ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها الثمرة وغيرها من المأكولات وأسلحتهم .
كما سأل بنو إسرائيل موسى فقالوا : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة .
ويحتمل أن تكون هذه كلها أسباباً في نزول هذه الآية ، وقد طولنا بذكر هذه الأسباب ، وذلك بخلاف مقصدنا في هذا الكتاب .
وأم : هنا منقطعة ، وتتقدر المنقطعة ببل والهمزة ، فالمعنى : بل أتريدون ، فبل تفيد الإضراب عما قبله ، ومعنى الإضراب هنا : هو الانتقال من جملة إلى جملة ، لا على سبيل إبطال الأولى .
وقد تقدّم قول من جعل أم هنا معادلة للاستفهام الأول .
وقالت فرقة : أم استفهام مقطوع من الأول ، كأنه قال : أتريدون .
والذي تقرر أن أم تكون متصلة ومنفصلة .
فالمتصلة : شرطها أن يتقدّمها لفظ همزة الاستفهام ، وأن يكون بعدها مفرد ، أو في تقدير المفرد .
والمنفصلة : ما انخرم الشرطان فيها أو أحدهما ، ويتقدر إذ ذاك ببل والهمزة معاً ، وأما مجيئها مرادفة للهمزة فقط ، أو مرادفة لبل فقط ، أو زائدة ، فأقوال : ضعيفة .
وعلى الخلاف في المخاطبين ، يجيء الكلام في قوله : { رسولكم } .
فإن كان الخطاب للمؤمنين ، وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم ، فيكون رسولكم جاء على ما في نفس الأمر ، وعلى ما أقروا به من رسالته .
وإن كان الخطاب للكفار ، كانت إضافة الرسول إليهم على حسب الأمر في نفسه ، لا على إقرارهم به .
ورجح كون الخطاب للمؤمنين بقوله : { وم يتبدّل الكفر بالإيمان } ، وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمن ، وبأنه معطوف على قوله : { لا تقولوا راعنا } ، أي هل تفعلون ما أمرتم ، أم تريدون ؟ ورجح أنهم اليهود ، لأنه سبق الكلام في الحكايات عنهم ما قالوا ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله ما يكون كفراً .
كما سئل : الكاف في موضع نصب ، فعلى رأي سيبويه : على الحال ، وعلى المشهور من مذاهب المعربين : نعت لمصدر محذوف ، فيقدر على قولهم : سؤالاً كما سئل ، ويقدر على رأي سيبويه : أن تسألوه ، أي السؤال كما سئل ، وما مصدرية التقدير كسؤال .
وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، التقدير : الذي سئله موسى .
وقرأ الحسن وأبو السمال : بكسر السين وياء .
وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري : بإشمام السين وياء .
وقرأ بعض القراء : بتسهيل الهمزة بين بين وضم السين .
وهذه القراءات مبنية على اللغتين في سأل ، وهو أن تكون الهمزة مقرة مفتوحة ، فتقول سأل .
فعلى هذه اللغة تكون قراءة الجمهور ، وقراءة من سهل الهمز بين بين .
واللغة الثانية أن تكون عين الكلمة واواً ، وتكون على فعل بكسر العين فتقول : سلت أسال ، كخفت أخاف ، أصله : سولت .
وعلى هذه اللغة تكون قراءة الحسن ، وقراءة من أشم .
وتخريج هاتين القراءتين على هذه اللغة أولى من التخريج على أن أصل الألف الهمز ، فأبدلت الهمزة ألفاً ، فصار مثل : قال وباع ، فقيل فيه : سيل بالكسر المحض ، أو الإشمام ، لأن هذا الإبدال شاذ ولا ينقاس .
وتلك لغة ثانية ، فكان الحمل على ما كان لغة أولى من الحمل على الشاذ غير المطرد .
وحذف الفاعل هنا للعلم به ، التقدير : كما سأل قوم موسى موسى من قبل .
{ موسى من قبل } : يتعلق هذا الجار بقوله : سئل ، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظاً ، وذلك أن المضاف إليه معرفة محذوف .
فلذلك بنيت قبل على الضم ، والتقدير : من قبل سؤالكم ، وهذا توكيد ، لأنه قد علم أن سؤال بني إسرائيل موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، متقدّم على سؤال هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسؤال قوم موسى عليه السلام هو قولهم : { أرنا الله جهرة } { اجعل ن إلهاً } فأراد تعالى أن يوبخهم على تعلق إرادتهم بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يقترحوا عليه ، إذ هم يكفيهم ما أنزل إليهم .
وشبه سؤالهم بسؤال ما اقترحه آباء اليهود من الأشياء التي مصيرها إلى الوبال .
وظاهر الآية يدل على أن السؤال لم يقع منهم .
ألا ترى أنه قال : { أم تريدون أن تسألوا } ؟ فوبخهم على تعلق إرادتهم بالسؤال ، إذ لو كان السؤال قد وقع ، لكان التوبيخ عليه ، لا على إرادته ، وكان يكون اللفظ : أتسألون رسولكم ؟ أو ما أشبه ذلك مما يؤدّي معنى وقوع السؤال ، لكن تظافرت نقولهم في سبب نزول هذه الآية ، وإن اختلفوا في التعيين على أن السؤال قد وقع .
{ ومن يتبدّل الكفر بالإيمان } ؟ تقدّم الكلام في التبديل ، أي : من يأخذ الكفر بدل الإيمان ؟ وهذه كناية عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر ، كما جاء في قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } وفسر الزمخشري هذا بأن قال : ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها .
وقال أبو العالية : الكفر هنا : الشدة ، والإيمان : الرخاء .
وهذا فيه ضعف ، إلا أن يريد أنهما مستعاران في الشدة على نفسه والرخاء لها عن العذاب والنعيم .
وأما المعروف من شدة أمور الدنيا ورخائها ، فلا تفسر الآية بذلك ، والظاهر حمل الكفر والإيمان على حقيقتهما الشرعية ، لأن من سأل الرسول ما سأل مع ظهور المعجزات ووضوح الدلائل على صدقه ، كان سؤاله تعنتاً وإنكاراً ، وذلك كفر .
{ فقد ظل سواء السبيل } : هذا جواب الشرط ، وقد تقدم الكلام على الضلال في قوله : { ولا الضالين } وعلى سواء في قوله : { سواء عليهم أأنذرتهم } وأن سواء يكون بمعنى مستو .
ولذلك يتحمل الضمير في قولهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، ويوصف به : { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } ، ويفسر بمعنى العدل والنصفة ، لأن ذلك مستو ، وقال زهير :
قال تعالى : { فرآه في سواء الجحيم } أي في وسطها .
وقال عيسى بن عمر : كتبت حتى انقطع سواي ، وقال حسان :
وبذلك فسر السواء في الآية أبو عبيدة ، وفسره الفراء بالقصد .
ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى ، كنى عنها بالسبيل ، وجعل من حاد عنها : كالضال عن الطريق ، وكنى عن سؤالهم نبيهم ما ليس لهم أن يسألوه بتبدل الكفر بالإيمان ، وأخرج ذلك في صورة شرطية ، وصورة الشرط لم تقع بعد تنفيراً عن ذلك ، وتبعيداً منه .
فوبخهم أولاً على تعلق إرادتهم بسؤال ما ليس لهم سؤاله ، وخاطبهم بذلك ، ثم أدرجهم في عموم الجملة الشرطية .
وإن مثل هذا ينبغي أن لا يقع ، لأنه ضلال عن المنهج القويم ، فصار صدر الآية إنكاراً وتوبيخاً ، وعجزها تكفيراً وضلالاً .
وما أدى إلى هذا فينبغي أن لا يتعلق به غرض ولا طلب ولا إرادة .
وإدغام الدال في الضاد من الإدغام الجائز .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.