معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوٓءٖ فَإِنِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (11)

وقوله :{ إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم } واختلف في هذا الاستثناء ، قيل : هذا إشارة إلى أن موسى حين قتل القبطي خاف من ذلك ، ثم تاب فقال : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، فغفر له . قال ابن جريج : قال الله تعالى لموسى : إنما أخفتك لقتلك النفس . وقال : معنى الآية : لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يتوب ، فعلى هذا التأويل يكون الاستثناء صحيحاً وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله : { إلا من ظلم } ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الناس كافة . وفي الآية متروك استغني عن ذكره بدلالة الكلام عليه ، تقديره : فمن ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم . وقال بعض العلماء : ليس هذا باستثناء من المرسلين لأنه لا يجوز عليهم الظلم ، بل هو استثناء من المتروك في الكلام ، معناه : لا يخاف لدي المرسلون ، إنما الخوف على غيرهم من الظالمين ، إلا من ظلم ثم تاب ، وهذا من الاستثناء المنقطع ، معناه : لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف ، فإن تاب وبدل حسناً بعد سوء فإن الله غفور رحيم ، يعني يغفر الله له ويزيل الخوف عنه . وقال بعض النحويين : إلا ها هنا بمعنى : ولا ، يعني : لا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء ، يقول : لا يخاف لدي المرسلون ولا المذنبون التائبون ، كقوله تعالى : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم } يعني : ولا الذين ظلموا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوٓءٖ فَإِنِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (11)

وقوله - سبحانه - : { إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } استثناء منقطع مما قبله .

أى : إنى يا موسى لا يخاف لدى المرسلون ، لكن من ظلم وارتكب فعلاً سيئاً من عبادي ، ثم تاب إلي توبة صادقة ، بأن ترك الظلم إلى العدل والشر إلى الخير ، والمعصية إلى الطاعة ، فإنى أغفر له ما فرط منه ، لأنى أنا وحدى الواسع المغفرة والرحمة .

قال ابن كثير : هذا استثناء منقطع ، وفيه بشارة عظيمة للبشر ، وذلك أن من كان على شىء ثم أقلع عنه وتاب وأناب ، فإن الله يتوب عليه ، كما قال - تعالى - { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى } وقال - تعالى - { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } وقيل : إن الاستثناء متصل ، فيكون المعنى : لا يخاف لدى المرسلون ، إلا من ظلم منهم بأن وقع فى الصغائر التى لا يسلم منها أحد ، ثم تاب منها وأقلع عنها ، فإنى غفور رحيم .

قال الآلوسى : " والظاهر - هنا - انقطاع الاستثناء ، والأوفق بشأن المرسلين ، أن يراد بمن ظلم : من ارتكب ذنباً كبيراً أو صغيراً من غيرهم . و { ثُمَّ } يحتمل أن تكون للتراخى الزمانى فتفيد الآية المغفرة لمن بدل على الفور من باب أولى . ويحتمل أن تكون للتراخى الرتبى ، وهو ظاهر بين الظلم والتبديل . . . " .

وعبر - سبحانه - عن ترك الظلم بالتبديل ، للإشارة إلى الإقلاع التام عن هذا الظلم ، وإلى أن هذا الظلم قد حل محله العدل والطاعة والانقياد لأمره - تعالى- .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوٓءٖ فَإِنِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (11)

وقوله : وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآهَا تَهْتَزّ في الكلام محذوف تُرك ذكره ، استغناء بما ذُكِر عما حُذف ، وهو : فألقاها فصارت حية تهتز فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ يقول : كأنها حية عظيمة ، والجانّ : جنس من الحيات معروف .

وقال ابن جُرَيْج في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج : وألْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رآها تَهْتَزّ كأنّها جانّ قال : حين تحوّلت حية تسعى ، وهذا الجنس من الحيات عني الراجز بقوله :

يَرْفَعْنَ باللّيْلِ إذَا ما أسْدَفا *** أعْناقَ جِنّانٍ وَهاما رُجّفَا

*** وَعَنَقا بَعْدَ الرّسِيم خَيْطَفَا ***

وقوله : وَلّى مُدْبرا يقول تعالى ذكره : ولى موسى هاربا خوفا منها ولَمْ يُعَقّبْ يقول : ولم يرجع من قولهم : عقب فلان : إذا رجع على عقبه إلى حيث بدأ . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ولَمْ يُعَقّبْ قال : لم يرجع .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان عن معمر ، عن قتادة ، قال : لم يلتفت .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ولَمْ يُعَقّبْ قال : لم يرجع يَا مُوسَى قال : لما ألقى العصا صارت حية ، فرعب منها وجزع ، فقال الله : إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ قال : فلم يرعو لذلك ، قال : فقال الله له : أقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنّكَ مِنَ الاَمِنِينَ قال : فلم يقف أيضا على شيء من هذا حتى قال : سَنُعِيدُها سِيرَتها الأُولى قال : فالتفت فإذا هي عصا كما كانت ، فرجع فأخذها ، ثم قوي بعد ذلك حتى صار يرسلها على فرعون ويأخذها .

وقوله : يا موسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَديّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ يقول تعالى ذكره : فناداه ربه : يا موسى لا تخف من هذه الحية ، إني لا يخاف لديّ المرسلون : يقول : إني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائي الذين أختصهم بالنبوّة ، إلا من ظلم منهم ، فعمل بغير الذي أُذن له في العمل به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قوله يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ قال : لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الله الفزاري ، عن عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : قوله : يا مُوسَى لا تَخَفْ إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس ، قال : وقال الحسن : كانت الأنبياء تذنب فتعاقب .

واختلف أهل العربية في وجه دخول إلا في هذا الموضع ، وهو استثناء مع وعد الله الغفران المستثنى من قوله : إنّي لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ بقوله : فإنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . وحكم الاستثناء أن يكون ما بعده بخلاف معنى ما قبله ، وذلك أن يكون ما بعده إن كان ما قبله منفيا مثبتا كقوله : ما قام إلا زيد ، فزيد مثبت له القيام ، لأنه مستثنى مما قبل إلا ، وما قبل إلا منفيّ عنه القيام ، وأن يكون ما بعده إن كان ما قبله مثبتا منفيا كقولهم : قام القوم إلا زيدا فزيد منفي عنه القيام ومعناه : إن زيدا لم يقم ، والقوم مثبت لهم القيام ، ( إلا من ظلم ، ثم بدّل حسنا بعد سوء ) ، فقد أمنه الله بوعده الغفران والرحمة ، وأدخله في عداد من لا يخاف لديه من المرسلين . فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت إلا في هذا الموضع ، لأن إلا تدخل في مثل هذا الكلام ، كمثل قول العرب : ما أشتكي إلا خيرا فلم يجعل قوله : إلا خيرا على الشكوى ، ولكنه علم أنه إذا قال : ما أشتكي شيئا أن يذكر عن نفسه خيرا ، كأنه قال : ما أذكر إلا خيرا .

وقال بعض نحويي الكوفة : يقول القائل : كيف صير خائفا من ظلم ، ثم بدّل حسنا بعد سوء ، وهو مغفور له ؟ فأقول لك : في هذه الاَية وجهان : أحدهما أن يقول : إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة ، ومن خلط عملاً صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو ، فهذا وجه . والاَخر : أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة ، لأن المعنى : لا يخاف لديّ المرسلون ، إنما الخوف على من سواهم ، ثم استثنى فقال : إلا مَنْ ظَلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْنا يقول : كان مشركا ، فتاب من الشرك ، وعمل حسنا ، فذلك مغفور له ، وليس يخاف . قال : وقد قال بعض النحويين : إن إلا في اللغة بمنزلة الواو ، وإنما معنى هذه الاَية : لا يخاف لديّ المرسلون ، ولا من ظلم ثم بدّل حسنا ، قال : وجعلوا مثله كقول الله : لِئَلاّ يكُونَ للنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال : ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا ، لأني لا أجيز : قام الناس إلا عبد الله ، وعبد الله قائم إنما معنى الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء التي قبل إلا . وقد أراه جائزا أن يقول : لي عليك ألف سوى ألف آخر فإن وُضِعت إلا في هذا الموضع صلحت ، وكانت إلا في تأويل ما قالوا ، فأما مجرّدة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا ، ولكن مثله مما يكون معنى إلا كمعنى الواو ، وليست بها قوله : خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ هو في المعنى . والذي شاء ربك من الزيادة ، فلا تجعل إلا بمنزلة الواو ، ولكن بمنزلة سوى فإذا كانت «سوى » في موضع «إلا » صلحت بمعنى الواو ، لأنك تقول : عندي مال كثير سوى هذا : أي وهذا عندي ، كأنك قلت : عندي مال كثير وهذا أيضا عندي ، وهو في سوى أبعد منه في إلا ، لأنك تقول : عندي سوى هذا ، ولا تقول : عندي إلا هذا .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُم بَدّلَ عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية ، بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما ، وهو أن قوله : إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناء صحيح من قوله لا يَخافُ لَدَيّ المُرْسَلُونَ إلاّ مَنْ ظَلَمَ منهم فأتى ذنبا ، فإنه خائف لديه من عقوبته . وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك ، وهو قوله قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس .

فإن قال قائل : فما وجه قيله إن كان قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ استثناءً صحيحا ، وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين ، وكيف يكون خائفا من كان قد وُعد الغفران والرحمة ؟ قيل : إن قوله : ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءِ كلام آخر بعد الأوّل ، وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم ، ومن لم يظلم عند قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل ، وسائر الناس غيرهم . وقيل : فمن ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم .

فإن قال قائل : فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت بثم إن لم يكن عطفا على قوله : ظَلَمَ ؟ قيل : على متروك استغني بدلالة قوله ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ عليه عن إظهاره ، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره ، وهو : فمن ظلم من الخلق . وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية ، فقد قالوا على مذهب العربية ، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل . وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه من التأويل ، ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل .

وقوله : ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْد سُوءٍ يقول تعالى ذكره : فمن أتى ظلما من خلق الله ، وركب مأثما ، ثم بدل حسنا ، يقول : ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم ، فإني غَفُورٌ يقول : فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه ، وترك عقوبته عليه رَحِيمٌ به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله إلاّ مَنْ ظَلَمَ ، ثُمّ بَدّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءٍ ثم تاب من بعد إساءته فإنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوٓءٖ فَإِنِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (11)

الاستثناء في قوله : { إلا من ظلم } ظاهره أنه متصل . ونسَب ابن عطية هذا إلى مقاتل وابن جُريج فيكون { من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء } مستثنى من عموم الخوف الواقع فعله في حيّز النفي فيعم الخوف بمعنى الرعب والخوف الذي هو خوف العقاب على الذنب ، أي إلا رسولاً ظَلم ، أي فَرط منه ظلم ، أي ذَنب قبل اصطفائه للرسالة ، أي صدر منه اعتداء بفعل ما لا يفعله مثلُه في متعارف شرائع البشر المتقرر أنها عدل ، بأن ارتكب ما يخالف المتقرر بين أهل الاستقامة أنه عدل ( قبل أن يكون الرسول متعبَّداً بشرع ) فهو يخاف أن يؤاخذه الله به ويجازيه على ارتكابه وذلك مثل كيد إخوة يوسف لأخيهم ، واعتداء موسى على القِبطي بالقتل دون معرفة المحق في تلك القضية ؛ فذلك الذي ظلم ثم بَدَّل حُسناً بعد سوء ، أي تاب عن فعله وأصلح حاله يغفر الله له .

والمقصود من هذا الاستثناء على هذا الوجه تسكين خاطر موسى وتبشيره بأن الله غفر له ما كان فرط فيه ، وأنه قبل توبته مما قاله يوم الاعتداء { هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } [ القصص : 15 ، 16 ] ، فأفرغ هذا التطمين لموسى في قالَب العموم تعميماً للفائدة .

واستقامةُ نظم الكلام بهذا المعنى يكون بتقدير كلام محذوف يدل عليه التفريع في قوله : { فإني غفور رحيم } . فالتقدير : إلا من ظلم من قبل الإرسال وتاب من ظلمه فخاف عقابي فلا يَخاف لأني غافر له وقابل لتوبته لأني غفور رحيم . وانتظم الكلام على إيجاز بديع اقتضاه مقام تعجيل المسرة ، ونسج على منسج التذكرة الرمزية لعلم المتخاطبَيْن بذلك كأنه يقول : لم أهمل توبتك يوم اعتديت وقولَك { هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضلّ مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } [ القصص : 15 ، 16 ] ، وعزمَك على الاستقامة يوم قلتَ : { رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين } [ القصص : 17 ] .

ولذلك اقتصر في الاستثناء على خصوص من بدّل حسناً بعد سوء إذ لا يتصور في الرسول الإصرار على الظلم .

ومن ألطف الإيماء الإتيان بفعل { ظَلم } ليومىء إلى قول موسى يوم ارتكب الاعتداء { ربّ إني ظلمتُ نفسي } [ القصص : 16 ] ولذلك تعين أن يكون المقصود ب { من ظَلم ثم بدّل حسناً بعد سوء } موسى نفسَه .

وقال الفرّاء والزجاج والزمخشري وجرى عليه كلام الضحاك : الاستثناء منقطع وحرف الاستثناء بمعنى الاستدراك فالكلام استطراد للتنبيه على أن من ظَلم وبدّل حسناً بعد سوء من الناس يغفر له . وعليه تكون { مَن } صادقة على شَخص ظَلَم وليس المراد بها مخالفات بعض الرسل . وهذا التأويل دعا إليه أن الرسالة تنافي سبق ظلم النفس . والذي حداهم إلى ذلك أن من مقتضى الاستثناء المتصل إثباتَ نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى ، ونقيضُ انتفاء الخوف حصول الخوف . والموجود بعد أداة الاستثناء أنه مغفور له فلا خلاف عليه . ويُفهم منه أنه لو ظلم ولم يبدل حسناً بعد سوء يخاف عذاب الآخرة .

أما الزمخشري فزاد على ما سلكه الفرّاء والزجاج فجعل ما صْدَق { من ظلم } رسولاً ظلم . والذي دعاه إلى اعتبار الاستثناء منقطعاً هو أحد الداعيين اللذين دعيا الفرّاء والزجاج وهو أن الحكم المثبت للمستثنى ليس نقيضاً لحكم المستثنى منه ولذلك جعل ما صْدَق { مَن ظلم } رسولاً من الرسل ظلم بما فرط منه من صغائر ليشمل موسى وهو واحد منهم .

وقد تحصل من الاحتمالين في معنى الاستثناء أن الرسل في حضرة الله ( أي حين القيام بواجبات الرسالة ) لا يخافون شيئاً من المخلوقات لأن الله تعالى تكفل لهم السلامة ، ولا يخافون الذنوب لأن الله تكفل لهم العصْمة . ولا يخافون عقاباً على الذنوب لأنهم لا يقربونها ، وأن من عداهم إن ظلم نفسه ثم بَدَّل حسناً بعد سوء أمِن ممّا يُخاف من عقاب الذنوب لأنه تدارك ظلمه بالتوبة ، وإن ظلم نفسه ولم يتب يخف عقاب الذنب فإن لم يظلم نفسه فلا خوف عليه . فهذه معان دلّ عليها الاستثناء باحتماليه ، وذلك إيجاز .

وفي « تفسير ابن عطية » أن أبا جعفر قرأ : { أَلاَ من ظلم } بفتح همزة ( أَلاَ ) وتخفيف اللام فتكون حرف تنبيه ، ولا تعرف نسبة هذه القراءة لأبي جعفر فيما رأينا من كتب علم القراءات فلعلها رواية ضعيفة عن أبي جعفر .

وفعل { بدّل } يقتضي شيئين : مأخوذاً ، ومُعطى ، فيتعدى الفعل إلى الشيئين تارة بنفسه كقوله تعالى في الفرقان ( 70 ) { فأولئك يبدِّل الله سيئاتهم حسنات } ، ويتعدّى تارة إلى المأخوذ بنفسه وإلى المعطى بالباء على تضمينه معنى عَاوض كما قال تعالى : ولا تتبدّلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 2 ] ، أي لا تأخذوا خبيث المال وتضيّعوا طيِّبه ، فإذا ذكر المفعولان منصوبين تعين المأخوذ والمبذول بالقرينة وإلا فالمجرور بالباء هو المبذول ، وإن لم يذكر إلا مفعول واحد فهو المأخوذ كقول امرىء القيس :

وبُدِّلت قُرحاً دامياً بعد صحة *** فيا لكِ من نُعمى تبدَّلْنَ أبؤسا

وكذلك قوله تعالى هنا : { ثم بدل حسناً بعد سوء } أي أخذ حسناً بسوء ، فإن كلمة { بعد } تدل على أن ما أضيفت إليه هو الذي كان ثابتاً ثم زال وخلفه غيره . وكذلك ما يفيد معنى ( بعد ) كقوله تعالى : { ثم بدلنا مكانَ السيئة الحسنة } [ الأعراف : 95 ] فالحالة الحسنة هي المأخوذة مجعولة في موضع الحالة السيئة .