قوله تعالى : { إن الله اصطفى آدم ونوحاً } الآية . قال ابن عباس رضي الله عنهما قالت اليهود : نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ونحن على دينهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، يعني : إن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم على غير دين الإسلام . اصطفى : اختار افتعل من الصفوة وهي الخالص من كل شيء . آدم أبو البشر ونوحاً .
قوله تعالى : { وآل إبراهيم وآل عمران } . قيل : أراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم عليه السلام وعمران أنفسهما ، كقوله تعالى ( وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ) يعني موسى وهارون ، وقال آخرون ، آل إبراهيم : إسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم عليه السلام . وأما آل عمران فقال مقاتل : هو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السلام . وآله موسى وهارون . وقال الحسن ووهب : هو عمران بن أشهم بن عمون من ولد سليمان بن داود عليهما السلام ، وآله مريم وعيسى ، وقيل عمران بن ماثان وخص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل كلهم من نسلهم .
وبعد هذا الحديث الحكيم المتنوع - من أول السورة إلى هنا - عن وحدانية الله ، وقدرته النافذة وعلمه المحيط ، وعن أحقيته للعبادة والخضوع ، وعن الكتب السماوية وما اشتملت عليه من هدايات وعن محكم القرآن ومتشابهه ، وعن رعاية الله - تعالى - لعباده المؤمنين ، وعن تهديد الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم ، وعن الشهوات التي يميل الإنسان بطبعه إليها وعما هو أفضل منها ، وعن دين الإسلام وأنه هو الدين الذى ارتضاه الله لعباده ، وعن بعض الرذائل التى عرفت عن أكثر أهل الكتاب ، وعن حث الناس على مراقبة الله - تعالى - وإخلاص العبادة له حتى يكونوا ممن يحبهم ويحبونه فيسعدوا في دينهم ودنياهم وآخرتهم . . .
بعد كل ذلك تحدث القرآن - في أكثر من ثلاثين آية - عمن اصطفاهم الله من عباده ، وعن جانب من قصة مريم ، وقصة زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام - وعن قصة ولادة عيسى - عليه السلام - وما صاحبها من خرق للعادات ، وما منحه - سبحانه - من معجزات وعن محاجة الكافرين من أهل الكتاب في شأنه وكيف رد القرآن عليهم . . . استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول : { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }
قوله { اصطفى } من الاصطفاء وهو الاختيار والانتقاء وطلب الصفوة من كل شيء . وقوله { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ } الآل - كما يقول الراغب - مقلوب عن الأهل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة . يقال آل فلان ولا يقال آل رجل ولا آل زمان كذا أو موضع كذا . . . ويضاف إلى الأشرف الأفضل فيقال آل الله وآل السلطان ولا يقال آل الحجام . . . . ويستعمل الآل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة قال - تعالى - { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ } .
والمعنى : إن الله - تعالى - قد اختار واصطفى { ءَادَمَ } أبا البشر ، بأن جعله خليفة في الأرض ، وعلمه الأسماء كلها ، وأسجد له ملائكته .
واصطفى { نُوحاً } لأنه - كما يقول الآلوسى - آدم الأصغر ، والأب الثاني للبشرية ، وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله - سبحانه - { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين } واصطفى { آلَ إِبْرَاهِيمَ } أى عشيرته وذوي قرباه وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما .
واصطفى { آلَ عِمْرَانَ } إذ جعل فيهم عيسى - عليه السلام - الذى آتاه الله البينات ، وأيده بروح القدس .
والمراد بعمران هذا والد مريم أم عيسى - عليه سلام - فهو عمران بن ياشم بن ميشا بن حزقيا . . . . وينتهي نسبه إلى إبراهيم - عليه السلام - .
وإن في ذلك التسلسل دليل على أن الله - تعالى - قد اقتضت حكمته أن يجعل في الإنسانية من يهديها إلى الصراط المستقيم فقد ابتدأت الهداية بآدم أبى البشر كما قال - تعالى - : { ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى } ثم جاء من بعده بقرون لا يعلمها إلا الله نوح - عليه السلام - فمكث يدعو الناس إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق " ألف سنة إلا خمسين عاماً " ثم جاء من بعد ذلك إبراهيم - عليه السلام - فدعا الناس إلى عبادة الله وحده ، فكان هو وآله صفوة الخلق وفيهم النبوة فمن إسماعيل بن إبراهيم كان محمد صلى الله عليه وسلم الذى ختمت به الرسالات السماوية .
ومن إسحاق وبنيه كان عدد من الأنبياء كداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون . . . ومن فرع إسحاق كان آل عمران وهم ذريته وأقاربه كزكريا ويحيى وعيسى الذي كان آخر نبي من هذا الفرع .
وفى التعبير بالاصطفاء تنبيه إلى أن آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران صفوة الخلق ، إذ أن الرسل والأنبياء جميعا من نسلهم .
وقوله { عَلَى العالمين } أى على عالمى زمانهم . أى أهل زمان كل واحد منهم .
{ إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }
يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله اجتبى آدم ونوحا ، واختارهما لدينهما ، { وآلَ إِبْرَاهِيمَ وآلَ عِمْرَانَ } لدينهم الذي كانوا عليه ، لأنهم كانوا أهل الإسلام . فأخبر الله عزّ وجلّ أنه اختار دين من ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته . وإنما عنى بآل إبراهيم وآل عمران المؤمنين .
وقد دللنا على أن آل الرجل أتباعه وقومه ومن هو على دينه . وبالذي قلنا في ذلك روي القول عن ابن عباس أنه كان يقوله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { إِنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على العَالَمِينَ } قال : هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد ، يقول الله عزّ وجلّ : { إِنّ أوْلى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للّذِينَ اتّبَعُوهُ } وهم المؤمنون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { إِنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على العَالَمِينَ } رجلان نبيان اصطفاهما الله على العالمين .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { إِنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على العَالَمِينَ } قال : ذكر الله أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين ففضلهم على العالمين ، فكان محمد من آل إبراهيم .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { إِنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيمَ } إلى قوله : { وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قال : فضلهم الله على العالمين بالنبوة على الناس كلهم كانوا هم الأنبياء الأتقياء المطيعين لربهم .
لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه جاءت هذه الآية معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه ، ومنبئة عن حقيقته كيف كانت ، فبدأ تعالى بذكر فضله على هذه الجملة التى { آل عمران } منها ثم خص { امرأة عمران } بالذكر لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى عليه السلام وكيف كان و{ اصطفى } معناه : اختار صفو الناس فكان ذلك هؤلاء المذكورين وبقي الكفار كدراً ، و{ آدم } هو أبونا عليه السلام اصطفاه الله تعالى بالإيجاد والرسالة إلى بنيه والنبوة والتكليم حسبما ورد في الحديث{[3096]} وحكى الزجاج عن قوم { إن الله اصطفى آدم } عليه السلام بالرسالة إلى الملائكة في قوله : { أنبئهم بأسمائهم }{[3097]} وهذا ضعيف ، ونوح عليه السلام هو أبونا الأصغر في قول الجمهور هو أول نبي بعث إلى الكفار ، وانصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفة الاسم ، كهود ولوط ، و{ آل إبراهيم } يعني بإبراهيم الخليل عليه السلام والآل في اللغة ، الأهل والقرابة ، ويقال للأتباع وأهل الطاعة آل ، فمنه آل فرعون ، ومنه قول الشاعر وهو أراكة الثقفي في رثاء النبي عليه السلام وهو يعزي نفسه في أخيه عمرو{[3098]} : [ الطويل ]
فَلاَ تَبْكِ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أَجنَّهُ . . . عليٌّ وَعَبَّاسٌ وآلُ أبي بَكْرِ
أراد جميع المؤمنين ، و «الآل » في هذه الآية يحتمل الوجهين ، فإذا قلنا أراد بالآل القرابة والبيتية فالتقدير { إن الله اصطفى } هؤلاء على عالمي زمانهم أو على العالمين عاماً يقدر محمداً عليه السلام من آل إبراهيم ، وإن قلنا أرد بالآل الأتباع فيستقيم دخول أمة محمد في الآل لأنها على ملة إبراهيم ، وذهب منذر بن سعيد وغيره إلى أن ذكر آدم يتضمن الإشارة إلى المؤمنين به من بنيه وكذلك ذكر نوح عليه السلام وأن «الآل » الأتباع فعمت الآية جميع مؤمني العالم فكان المعنى ، أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين ، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم ولأن الكلام في قصة بعضهم ، و{ آل عمران } أيضاً يحتمل من التأويل ما تقدم في { آل إبراهيم } ، وعمران هو رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود فيما حكى الطبري ، قال مكي : هو عمران بن ماثال{[3099]} ، وقال قتادة في تفسير هذه الآية : ذكر الله تعالى أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين ، ففضلهم على العالمين فكان محمد من آل إبراهيم ، وقال ابن عباس : «اصطفى الله » هذه الجملة بالدين والنبوة والطاعة له .