{ إِنَّ الله اصطفى * ءادَمَ *وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى * العالمين } روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن اليهود قالوا : نحن أبناء إبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام ونحن على دينهم فنزلت ، وقيل : إن نصارى نجران لما غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلوه ابن الله سبحانه واتخذوه إلهاً نزلت رداً عليهم وإعلاماً لهم بأنه من ذرية البشر المنتقلين في الأطوار المستحيلة على الإله وهذا وجه مناسبة الآية لما قبلها . / وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في وجه المناسبة : إنه سبحانه لما بين { إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام } وإن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغي والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم شرع في تحقيق رسالته وأنه من أهل بيت النبوة القديمة فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتبعه ذكر مبدأ عيسى وأمه وكيفية دعوته الناس إلى الإيمان تحقيقاً للحق وإبطالاً لما عليه أهل الكتابين من الإفراط والتفريط في شأنهما ثم بين محاجتهم في إبراهيم وادعائهم الانتماء إلى ملته ونزه ساحته العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميع الرسل دعاة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم تحقيقاً لوجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وتحتم الطاعة له حسبما يأتي تفصيله انتهى وهو وجه وجيه .
وبدأ بآدم عليه الصلاة والسلام لأنه أول النوع ، وثنى بنوح عليه الصلاة والسلام لأنه آدم الأصغر والأب الثاني وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله سبحانه : { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين } [ الصافات : 77 ] وذكر آل إبراهيم لترغيب المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة واسطة قلادتهم واستمالتهم نحو الاعتراف باصطفائه بواسطة كونه من زمرتهم وذكر آل عمران مع اندراجهم في الآل الأول لإظهار مزيد الاعتناء بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخ الاختلاف في شأنه وهذا هو الداعي إلى إضافة الآل في الأخيرين دون الأولين . وقيل : المراد بالآل في الموضعين بمعنى النفس أي اصطفى آدم ونوحاً وإبراهيم وعمران ، وذكر الآل فيهما اعتناءاً بشأنهما وليس بشيء ، والمراد بآل إبراهيم كما قال مقاتل : إسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وروي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم من كان على دينه كآل محمد صلى الله عليه وسلم في أحد الإطلاقات ، والمراد بآل عمران عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه مريم بنت عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود عليهما السلام قاله الحسن ووهب ، وقيل : المراد بهم موسى وهارون عليهما السلام ، فعمران حينئذ هو عمران بن يصهر أبو موسى قاله مقاتل ، وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة والظاهر هو القول الأول ؛لأن السورة تسمى آل عمران ولم تشرح قصة عيسى ومريم في سورة أبسط من شرحها في هذه السورة ، وأما موسى وهارون فلم يذكر من قصتهما فيها طرف فدل ذلك على أن عمران المذكور هو أبو مريم ، وأيضاً يرجح كون المراد به أبا مريم أن الله تعالى ذكر اصطفاءها بعد ، ونص عليه وأنه قال سبحانه :
{ إِذْ قَالَتِ امرأت عمران } [ آل عمران : 35 ] الخ ، والظاهر أنه شرح لكيفية الاصطفاء المشار إليه بقوله تعالى : { إِنَّ الله } في كون من قبيل تكرار الاسم في جملتين فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول نحو أكرم زيداً ، إن زيداً رجل فاضل ، وإذا كان المراد بالثاني غير الأول كان في ذلك إلباس على السامع ، وترجيح القول الأخير بأن موسى يقرن بإبراهيم في الذكر ليس في القوة كمرجح الأول كما لا يخفى ، والاصطفاء الاختيار ، وأصله أخذ صفوة الشيء كالاستصفاء ، ولتضمينه معنى التفضيل عدي بعلى ، والمراد بالعالمين أهل زمان كل واحد منهم أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمامه ، ويدخل الملك في ذلك ، والتأويل خلاف الأصل .
ومن هنا استدل بعضهم بالآية على أفضلية الأنبياء على الملائكة ، ووجه الاصطفاء في جميع الرسل أنه سبحانه خصهم بالنفوس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية حتى إنهم امتازوا كما قيل على سائر الخلق خلقاً وخلقاً وجعلوا خزائن أسرار الله تعالى ومظهر أسمائه وصفاته ومحل تجليه الخاصن عباده ومهبط وحيه ومبلغ أمره ونهيه ، وهذا ظاهر في المصطفين المذكورين في الآية من الرسل ، وأما مريم فلها الحظ الأوفر من بعض ذلك ، وقيل : اصطفى آدم بأن خلقه بيديه وعلمه الأسماء وأسجد له الملائكة وأسكنه جواره ، واصطفى نوحاً بأنه أول رسول بعث بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي المحارم ، وأنه أب الناس بعد آدم وباستجابة دعوته في حق الكفرة والمؤمنين ، واصطفى آل إبراهيم بأن جعل فيهم النبوة والكتاب ، ويكفيهم فخراً أن سيد الأصفياء منهم ، واصطفى عيسى وأمه بأن جعلهما آية للعالمين .
وإن أريد بآل عمران موسى وهارون فوجه اصطفاء موسى عليه الصلاة والسلام تكليم الله تعالى إياه وكتابة التوراة له بيده ، ووجه اصطفاء هارون جعله وزيراً لأخيه ، وأما اصطفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمفهوم بطريق الأولى وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره بالخلة وكونه شيخ الأنبياء وقدوة المرسلين ، وأما اصطفاء نبينا صلى الله عليه وسلم فيفهم من دخوله في آل إبراهيم كما أشرنا إليه وينضم إليه أن سياق هذا المبحث لأجله كما يدل عليه بيان وجه المناسبة في كلام شيخ الإسلام ، وروي عن أئمة أهل البيت أنهم يقرءون وآل محمد على العالمين وعلى ذلك لا سؤال ، ومن الناس من قال : المراد بآل إبراهيم محمد صلى الله عليه وسلم ، جعل كأنه كل الآل مبالغة في مدحه ، وفيه أن نبينا وإن كان في نفس الأمر بمنزلة الأنبياء كلهم فضلاً عن آل إبراهيم فقط إلا أن هذه الإرادة هنا بعيدة ، ويشبه ذلك في البعد بل يزيد عليه ما ذكره بعضهم في الآية أنه لما أمرهم بمتابعته صلى الله عليه وسلم وإطاعته ، وجعل إطاعته ومتابعته سبباً لمحبة الله تعالى إياهم وعدم إطاعته سبباً لسخط الله تعالى عليهم وسلب محبته عنهم أكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفيهم وقمعهم وتذليلهم وإعدامهم لهم تخويفاً لهؤلاء المتمردين عن متابعته صلى الله عليه وسلم فذكر اصطفاء آدم على العالم الأعلى فإنه رجحه على سائر الملائكة وجعلهم ساجدين له وجعل الشيطان في لعنة لتمرده ، واصطفاء نوح على العالم مع نهاية كثرتهم فأهلكهم بالطوفان وحفظ نوحاً وأتباعه ، واصطفاء آل إبراهيم على العالم مع أن العالم كانوا كافرين فجعل دينهم شائعاً وذلل مخالفيهم ، واصطفاء موسى وهارون على العالم فجعل السحرة مع كثرتهم مغلوبين لهما وفرعون مع عظمته وغلبة جنوده مغلوباً وأهلكهم ، ولذا خص آدم بالذكر ونوحاً والآلين ، ولم يذكر إبراهيم ونبينا صلى الله تعالى عليهما وسلم إذ إبراهيم لم يغلب ، وهذا الكلام لبيان أن نبينا صلى الله عليه وسلم سيغلب وليس المراد الاصطفاء بالنبوة حتى يخفى وجه التخصيص وبهذا ظهر ضعف الاستدلال به على فضلهم على الملائكة انتهى .
وفيه أن المتبادر من الاصطفاء الاجتباء والاختيار لا النصر على الأعداء على أن المقام بمراحل عن هذا الحمل ، وقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الاصطفاء هنا بالاختيار للرسالة ومثله فيما أخرجه ابن جرير عن الحسن وأيضاً حمل آل عمران على موسى وهارون مما لا ينساق إليه الذهن كما علمت ، وكأن القائل لما لم يتيسر له إجراء الاصطفاء بالمعنى الذي أراده في عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه اضطر إلى الحمل على خلاف الظاهر ، وأنت تعلم أن الآية غنية عن الولوج في مثل هذه المضايق .
( هذا ومن باب الإشارة ) :{ إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين } [ آل عمران : 33 ] الاصطفاء أعم من المحبة والخلة ، فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ البقرة : 253 ] فأخص المراتب هو المحبة ، وإليه يشير قوله تعالى : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات } [ البقرة : 253 ] ثم الخلة ، وفي لفظها إشارة إلى ذلك من طريق مخارج الحروف وأعمها الاصطفاء ، فاصطفى آدم بتعليم الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له ، ونوحاً الذي هو الأب الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه ، واصطفى آل إبراهيم وهم الأنبياء من ذريته بظهور أنوار تجليه الخاص على آفاق وجودهم ، وآل عمران بجعلهم آية للعالمين ذرية بعضها من بعض في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان : صورية ومعنوية ، وكل نبي تبع نبياً في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه ، ويمكن أن يقال : آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها ، ونوح هو هي في مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات ، وإله القوى الروحانية ، وعمران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن ، وآله التابعون له في ذلك البيت المقتدون به ، وكل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.